"مقام النبي موسى" إرث تاريخي إسلامي يقاوم الاندثار

جمعة, 01/29/2021 - 14:48

 أبواب حديدية عالية الارتفاع، صلبة قاسية، سور يحيط به، قباب ومآذن مرتفعة، هذا ما ستشاهده فقط إذا وفقت في منطقة محيطة بمقام النبي موسى عليه السلام، لكن مع أولى خطواتك إلى الداخل تتسلل إليك مشاعر مختلطة، ما بين رهبة وعظمة هذا المكان، والهدوء والسكينة التي تعم قدسية المكان، لا سيما المناظر الخلابة والإبداع في البناء.

هنا أنت في مقام النبي موسى الذي يقع إلى الجنوب من أريحا بحوالي 10كم، ويبعد عن العاصمة القدس الشريف 28 كم شرقاً، وهو يعتبر من أكبر المقامات التي تحويها فلسطين، فهو يحتوي على حوالي 120 غرفة موزعة على ثلاث طوابق، في المقام يتنبه الزائر للبعد التاريخي وجمال العمارة الإسلامية، عدا عن القدسية والنفحات الإيمانية التي تعم المكان.

موسم النبي موسى

دعونا نعود إلى البدايات الأولى التي نشأ منها المقام، فبحسب الروايات التاريخية كان موسم النبي موسى.

يحدثنا في هذا الجانب الباحث التاريخي غسان دويكات، مبينا أن أول من ابتدع هذا الموسم هو القائد صلاح الدين الأيوبي بعد انتصاره في معركة حطين، وكان له عدة غايات وأهداف، وبشكل عام استخدم المكان كدعاية وكرافعة لهمم الناس ولشحنها من أجل أن يبقوا على أهبة الاستعداد في ظل التواجد الصليبي.

ويتابع: "أنشا صلاح الدين الأيوبي المواسم، وهي عبارة عن تجميع الناس من كل أنحاء فلسطين وتكون كل مدينة لها موسم خاص بها، ولأن القدس منطقة الوسط في فلسطين، تتجمع الناس في هذا المقام ويشكلون حلقات ذكر وقراءة قرآن من أجل خلق انطباع أن المسلمين على استعداد دائم لأي خطر يمكن أن يشكله الصليبيون".

من جانبه، يقول المدير العام لموقع مركز التاريخ الفلسطيني الدكتور مروان الأقرع: "في عشرينات القرن الماضي كان الناس يأتون إلى هذا المقام كل عام في شهر نيسان وتتنافس مختلف المدن الفلسطينية في العدد وفي الحجم وفي البيارق التي كانت تحملها، مدينة نابلس، مدينة الخليل، مدينة يافا...، جميع المدن الفلسطينية كانت تأتي إلى المسجد الأقصى المبارك ومن ثم يكون الانطلاق إلى هذا المكان، وكانت تعمه الأهازيج والدبكات الشعبية، وكانوا يمزجون بين التراث الشعبي الفلسطيني وبين الأمر الديني".

تاريخ عريق

يجمع كل من يرى المقام بتاريخ عريق عاصره، وأناس عظماء اعتنوا به وحافظوا عليه، فوفقاً للباحثين فإن عمر هذا البناء حوالي 775 عاما.

ويقول دويكات: "معظم الروايات تؤكد أن الموقع تم تأسيسه على يد القائد الظاهر بيبرس في العام 1269 ميلادي، فبعد عودته من رحلة الحج جاء إلى هذه المنطقة وعندما رأى أنها مليئه بالأديرة والمواقع المتعلقة بالفرنجة هدم أكثرها وأنشأ هذا البناء".

ويضيف: "طبعاً لم ينشأ البناء بهذا الشكل الموجود عليه حالياً، هو أنشأ في البداية غرفة على ضريح سيدنا موسى، وأنشأ غرفة أخرى استخدمت كمسجد".

العمارة الإسلامية

وعن جمالية نظام البناء الذي يقوم عليه المقام يحدثنا المختص بالعمارة والبناء المهندس سامر المصري، فيقول: "العمارة الإسلامية تميزت بشكل مختلف عن مثيلاتها من الحضارات الأخرى من الناحية العمرانية والبنائية، فهي مرت بثلاث مراحل من العمارة، وكان لكل واحدة منها مميزاتها وصفاتها الخاصة البسيطة، وكانت في العهد الأول من الإسلام ومن ثم في العهد الأموي ومن ثم العهد العباسي، ومن خلال الحقب هذه خرجت العمارة الإسلامية بمضامينها وأشكالها وأفكارها المختلفة".

من جانبه يقول دويكات: "إذا أردنا تصنيف هذا البناء وننسبه لفترة إسلامية فكل المصادر والنقوش تؤكد أنه مملوكي بامتياز، مر بعدة مراحل، منها مرحلتان رسميتان موثقتان، مرحلة التأسيس والبناء على يد الظاهر بيبرس، وأيضاً بعد 1269 وحتى 1470 هذا الفترة الثانية غير الرسمية".

وقام المتطوعون من أهل الخير في فلسطين بعدة إضافات على هذه الأبنية، ولا تذكر المصادر تاريخا محددا أو أسماء الأشخاص الذين قاموا بذلك.

أما المرحلة الرسمية الثانية فبدأت في العام 1470 واستمرت عشر سنوات حتى العام 1480، أيضا في العهد والفترة المملوكية الثانية أضاف المماليك عليه ثلاثة أروقة جديدة مع القباب، ولاحقا استمرت الإضافات والترميم والتعمير خلال العهد المملوكي المتأخر من ضمنها كان السور الذي يحيط بالمقام ويحتوي على خمسة أبواب، أما في العهد العثماني فإن خط الترميم والإصلاح المملوكي استمر به العثمانيون فأضافوا 23 غرفة تحولت فيما بعد إلى غرف للسكن، وكانت فترة المشروع من 1604 حتى 1609 ميلادي وحفروا بئرين وبلطوا الساحة الخارجية وأزالوا الحجارة الزائدة من حول قبر المقام.

وتذكر المصادر أن حوالي خمس أو ست مراحل قام العثمانيون من خلالها بما يلزم من ترميم.

ويتابع المصري: "الذي يأتي إلى المقام هنا يلاحظ مدى الاهتمام بهذا المقام من الناحية المعمارية وناحية البناء والتشييد، وان كنت أنا أظن من خلال مشاهدتي لبعض الأروقة والمناطق في هذا المقام وجود بعض الآثار التي قد تكون أقدم بكثير من المماليك، واضح أن المماليك هم من سيطروا في عمارتهم على هذا المقام وأضافوا عليه إضافات كبيرة جدا وملحوظة".

ويضيف: "العنصر المملوكي هو المسيطر في هذا الموضوع، من خلال الايوانات، والساحات المكشوفة، والغرف المتعددة، والمسجد، والآبار، ووجود المقبرة في خارج الأسوار، وطبعا هناك إضافات أخرى أضافوها مثل المخبز والمطبخ وغيرها من الأمور حتى تساهم بتسهيل أمور الحجاج الذين كانوا يأتون إلى هذه المنطقة ويقيمون لمدة سبعة أيام تقريبا في موسم النبي موسى".

الايوانات كانت رمزية في العمارة المملوكية وتميزت بكثرتها، والايوانات التي تطل عموديا على الساحات المكشوفة.

اما المآذن فيتضح فيها العنصر المملوكي، إذ إن معظم المآذن المملوكية كانت مربعة الشكل ويعلوها الشكل المثمن أو المضلع بأشكاله بطريقة معينة".

ويضيف المصري: "الذي يميز العمارة المملوكية بشكل أدق أنها كانت متعددة الاستخدامات، بمعنى أن العمائر المختلفة كانت مثلا مسجد ومدرسة، فالوظيفة التي كانت تؤديها واضحة، أما هذا المكان فيعطي رسائل متعددة في عملية الاستخدام، فيعطي رسائل سياسية، ورسائل اجتماعية، ورسائل سياحية، ورسائل اقتصادية، وهذا الجزء المهم فيما يميز هذا المكان الرائع الجميل وسط الصحراء بحجارته التي تتناغم مع هذه البيئة وفي قببه التي تحاكي قمم الجبال في فلسطين".

مقامات مجاورة

ويقع إلى جانب مقام النبي موسى عدد من المقامات الأخرى مثل مقام عائشة الذي يقع شرقي مقام النبي موسى بحوالي 200 متر، وعائشة حسب ما تذكر المصادر هي امرأة صالحة ذاكره لله متعبدة توفيت في بداية القرن العشرين وقام زوجها كنوع من التقدير والاحترام ببناء هذا المقام لها تحديداً في الفترة الواقعة بين 1918 والعام 1928.

وفي الجنوب الغربي لمقام النبي موسى يوجد مقام الراعي، وحسب ما تقول بعض الروايات فهو الراعي حسن، راعي أغنام سيدنا موسى، وتذكر المصادر أن هذا المقام أنشئ خلال العهد العثماني.

تحت رعاية وزارة الأوقاف

وعن المقام وأهميته الدينية يقول مدير مقام النبي موسى الشيخ نوح الزغاري: "هذا المكان مكان ديني تاريخي، نحن مسئولون عن إدارة هذا المكان وعن تشجيع الناس لزيارته بهدف إعماره والحفاظ عليه، ونحن معنيون بشكل جمعي كل شرائح وفئات المجتمع بإعمار هذا المكان وزيارته، ونحافظ على هذا التراث التاريخي الديني الوجداني الذي له مكانة وجدانية وروحيه في قلوبنا نحن أبناء الشعب الفلسطيني".

ويضيف: "عندنا وسائل كثيرة تشجعنا على إعمار هذا المكان عن طريق تشجيع زيارات المدارس والجامعات والمعاهد والجمعيات الخيرية والنوادي، ولدينا اقتراحات ونوايا إن شاء الله بإقامة دورات هنا لمعهد إعداد الدعاة والمعاهد الشرعية وكليات الدعوة الإسلامية، كذلك بأن تأتي وتعطي المحاضرات هنا".