سمحت السلطات الموريتانية أخيرا للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بخرجة إعلامية كان في أمس الحاجة اليها بعد أسابيع ذاق فيها الرجل طعم السجن وطعم الاتهام والمضايقة أيضا ، وربما تكون هي الأسابيع الأسوأ والأكثر مرارة في تاريخه السياسي . كما أنها تُشكل مُنعطفا في تاريخ البلد الذي لم يشهد منذ استقلاله أن تمت جرجرة رئيس سابق إلى التحقيق بتهمة الفساد ونهب المال العام .
ودون الغوص عميقا في تفاصيل أو مدى مشروعية ما تعرض له ولد عبد العزيز أو ما سيتعرض له مستقبلا ، يمكن الخروج بعدة ملاحظات حول ثرثرته في ذلك اللقاء الذي دام ما يناهز ثلاث ساعات وأحتضنه أحد منازله الفخمة في العاصمة نواكشوط،،
أولا / الهجوم خير وسيلة للدفاع : تلك استراتيجية قديمة معهودة في ميادين الصراع والمنافسة ، وقد بدا واضحا من أول وهلة أن ولد عبد العزيز اعتمدها كآلية في مواجهة الخصوم ، حيث شن هجوما عنيفا على لجنة التحقيق البرلمانية التي وجهت له الاتهامات ونعت افرادها بالمفسدين وعديمي الكفاءة . كما عرّج في هجومه الغاضب على النظام واتهمه بالفساد وبتجاوز القوانين وخلق الذرائع لاستهدافه شخصيا ، لكن عزيز نسي او تناسا أن جل من وجّه إليهم سهام النقد ، سواء في لجنة التحقيق او في النظام القائم ، هم اصدقاءه الذين زكاّهم ووضع فيهم الثقة قبل مغادرته للسلطة.
ثانيا / الاحتماء بالدستور : ما إن فرغ ولد عبد العزيز من التعريض باللجنة وبممارسات النظام ، حتى قفز الى الدستور مستنجدا به كترس حماية وحصانة من الملاحقة بجرائم لا ترتقي الى مستوى الخيانة العظمى لكونها الجريمة الوحيدة التي يمكن أن يتهم بها رئيس الجمهورية وفقا لمنطوق المادة 93 من الدستور . ولا شك أن موضوع حصانة الرؤساء السابقين هي اليوم مثار جدل في الساحة الموريتانية بين القانونيين ، فريق يرى أن كل من شغل منصب رئيس الجمهورية له الحق أن يستفيد منها، وفريق آخر يرى انها تسقط بمجرد خروج الرئيس من الحكم . وفي جميع الأحوال ستكون هذه المسألة هي المرتكز القانوني للمحامين الذين سيتولون مهمة الدفاع عن ولد عبد العزيز ، وهم محقون بالتشبث بها ، ولا يُلام على معضلة الخلاف بشأنها سوى كاتب الدستور الموريتاني الذي ترك الأمور غائمة عندما حرّر نص المادة 93.
ثالثا/ المزج بين الغموض والوضوح : أدرك ولد عبد العزيز أن أهم سؤال سيطرح عليه أثناء المؤتمر الصحفي هو: من أين لك هذا ؟ ما هي مصادر ثروتك وكيف حصلت عليها ؟ . ولأنه قرر مسبقا أن لا يجيب على السؤال ويتركه غامضا بالنسبة للرأي العام رغم أن ذلك يُبقي الشكوك تحوم حوله ، فكان لزاما عليه ان يقدم للصحفيين بعض المعلومات الجديدة عن أي ملف آخر حتى لا يصبح المؤتمر عديم الفائدة. ولهذا السبب تحدث بشيء من الوضوح عن صناديق “أكرا” المتهم فيها المدعو عمر اليمني ، كما كشف معلومات أخرى عن تسليم مدير مخابرات القذافي عبد الله السنوسي.
وإذا كان ولد عبد العزيز صادقا في أن ثروته لم تشبها شائبة وأن المحكمة العليا على علم بحقيقتها ، فإن إصراره على إخفاء مصادرها يمكن تفسيره في نظرنا بأحد احتمالين ، الأول أنها جزء من أموال الحملات الرئاسية التي تبرع له بها رجال الاعمال في رئاسيات 2009 ، وفّره عزيز واستثمره ونمّاه ، مستغلا نفوذه كرئيس . والثاني أنها هدايا قدمت له من رؤساء وزعماء أجانب، وفي كلتا الحالتين الكشف عنها علنا سيكون محرجا بالنسبة له.
رابعا / الابقاء على شعرة معاوية : رغم الأسئلة التحريضية التي وجهت اليه للتعليق على رفيقه وصديقه الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني ، رفض ولد عبد العزيز أن يوجه إليه أي نوع من أنواع الإساءة أو النقد ، محافظا بذلك على شعرة معاوية بينهما . وهي سياسة ذكية انتهجها ولد عبد العزيز قد تجنبه بعض المتاعب ، لأنه يعلم جيدا أن السلطة والقضاء والدولة كلها بيد غزواني وقد يلحق به الأذى متى ما أراد ذلك . كما أن ولد عبد العزيز لا زال مؤمنا – في تقديرنا – بأن من يتحركون ضده هم المحيطون بولد الغزواني وليس الغزواني نفسه.
ومهما يكن من أمر فإن خرجة ولد عبد العزيز الإعلامية قد رمت المزيد من الحجارة في بركة المشهد السياسي الموريتاني ، خلطت الأوراق ، واربكت الساحة ، أجابت على بعض التساؤلات وتركت اخرى معلقة ، وربما رأى الكثيرون أن الرئيس السابق حقق من خلالها بعض النقاط الإيجابية ، بينما اعتبرها آخرون مجرد محاولة فاشلة أثبتت فساد الرجل خصوصا عندما رفض الكشف عن مصادر ثروته الهائلة مع أن ذلك هو محور القضية كلها . ومن ناحية أخرى كشف اللقاء أن ولد عبد العزيز لم ينته سياسيا ، وأنه مصر على المقارعة ، والمواجهة، حتى آخر نفس ، وقد بدا ذلك واضحا في نبرة التحدي والغضب التي سيطرت على مزاجه خلال معظم فقرات اللقاء وكأنه يريد أن يخاطب الجميع بلسان محمود درويش حين يقول :
يا قارئي ! ،، لا ترج مني الهمس ! ،، لا ترج الطرب
هذا عذابي ..ضربة في الرمل طائشة و أخرى في السحب !
حسبي بأني غاضب و النار أولها غضب !