رباب الحكيم
منذ ثورة الـ 30 من يونيو عام 2013 وقبلها بكثير ترتكب جماعة الإخوان الإرهابية العديد من أشكال العنف بصوره المختلفة سواء المباشرة عن طريق الاغتيالات والتفجيرات أو غير المباشرة من خلال فضائياتها التي تبث عبرها سموم لتفجير المجتمعات وتهديد نظم الحكم المستقرة.
ونظراً لاستمرار تلك الجماعة وأنصارها في ارتكاب تلك الجرائم باسم الدين كان من الضروري التنقيب في الكتب والمجلدات العلمية التي تكشف ألاعيب الإخوان وغيرهم واستخدامهم الخاطئ لمفاهيم الإسلام الصحيح، فلم نجد أفضل من عرض “كتاب المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي” للمفكر العربي على محمد الشرفاء، والذي يطالب فيه المؤلف الباحثين بضرورة مراجعة التراث الديني الإسلامي، والتنقيب عن الأسباب الخفية التي تدفع الجماعات المارقة مثل (الإخوان) و(داعش) وغيرهما من الجماعات التي تسيل الدماء باسم الدين، بالإضافة إلى العمل على مراجعة الخطاب الديني وتغييره وتحريره من النصوص والروايات التفاسير الفقهية التي تبرر كل هذا الكم من العنف والإرهاب الذي أصبح عنوانًا للخطاب الإسلامي المعاصر.
تبعًا لذلك، قدم الباحث المفكر”علي محمد الشرفاء الحمادي” في أوراق كتابه الذي يحمل عنوان “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي”، قراءة منفتحة ومتحررة من الأطر التقليدية ذات النزعة الأحادية، خلال سطور الكتاب تتبين فكرته المحورية من مفارقته بين نوعين من الخطاب، أولهما الخطاب الديني ويقصد به التراث الديني المتراكم بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى الآن، حيث يعني به التراث الإنساني الذي تمت أسطرته وتحويله أسطورة من ثم إلى مقدس. أما الثاني، فهو: الخطاب الإلهي، الذي يعنى بالنسبة للمؤلف النص المؤسس للدين الإسلامي، وهو القرآن الكريم.
ويهدف المؤلف عبر سطور كتابه الرصين إلى الدفاع عن النص المؤسس (القرآن) وتبرئته من كل ما نُسب إليه من اتهامات باطلة مثل: (معاداة العلم، الجمود، كراهية الآخر، التعصب، العنف، النزعة القتالية، اضطهاد المرأة)، مؤكدًا عبر صفحات الكتاب أن القرآن لم يكن أبدًا لاهوتيًا؛ فلا يؤسس لأي نزعة لاهوتية، إنما هو رسالة تهدف لتحرير الإنسان من الظلم والجهل والعبودية والأنانية. وتحمل رسالة النص المقدس عديد من المعاني السامية والنبيلة مثل: (الحب، التسامح، العدل، العقلانية، قبول الآخر، نشر السلام، احترام الإنسان لذاته بوصفه خليفة الله في الأرض، وغيرها..
ويقول الشرفاء: “ومن أجل تصحيح المفاهيم المغلوطة والتشوهات التي تناقلتها مؤلفات الفقه والتفاسير المختلفة – التي اعتمدت على روايات منسوبة لبعض الصحابة تناقلتها الألسن بعد مرور أكثر من قرنين من الزمان على وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تفسير دلالات الآيات في القرآن الكريم وما أحدثته من ارتباك في قناعات المسلمين، وما ترتب على ذلك تشويه صورة الدين الإسلامي عند غيرهم من الشعوب، حينما استقلت كل فرقة بمفهومها الخاص، واتخذت كل فرقة من علمائها مرجعًا وحيدًا في كل ما يختص بفقه العبادات والمعاملات.
وتابع: “وتعصب كل فرقة لمذهبها أدّت إلى خلق كيانات اجتماعية مستقلة في المجتمع الواحد، وصل بعضها إلى تكفير الفرقة الأخرى، وقد تسببت في ذلك فتاوى وتفاسير بشرية اتبعت روايات ضالة تعدَدت مصادرها واختلفت أهدافها لتفريق المسلمين والابتعاد عن نهج القرآن الكريم”.
ويشير المؤلف خلال مقولته السالفة إلى أن المسلمين أمامهم طريقين هما: الأول، الإيمان بالله وبكتابه، بحيث يكون القرآن هاديًا مرشدًا للمسلمين. أما الطريق الثاني، أن يتبع المسلمين الروايات التي روج لها ممن يسمون أنفسه بعلماء الدين، وعلماء حديث، وشيوخ الإسلام الذين أقحموها في قناعات المسلمين وفي معتقداتهم؛ فكانت سببًا في تفرقهم وتشرذمهم فرقًا وشيعًا وأحزابًا يكفر بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم البعض الآخر.
ومن السابق، يتضح أن فلسفة المؤلف للخروج من المأزق الذي وضعتنا فيه المرجعيات والتفسيرات التي وضعها علماء الحديث والفقهاء التي كانت سببًا في طمس الوجه المشرق للإسلام وتشويه صورته السمحة، يتمثل في الرجوع إلى النص القرآني بوصفه المرجعية الأساسية والوحيدة للمسلمين، ويستدل بآيات الله -عز وجل- تؤكد رؤيته في أن النص القرآني هو المرجعية التي ينبغي للمسلمين أن يحتكموا لها في حياتهم وفي معاشهم كما في قول الله تعالى : “تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ” (سورة الجاثية 6 )
كما يتبين في قول الله تعالى على لسان نبي الرحمة عندما اشتكى المسلمين إلى الله؛ لأنهم هجروا القرآن وابتعدوا عن الطريق القويم : “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” ( سورة الفرقان 30 ).
ويتطرق الشرفاء، خلال “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي”، إلى مفارقة بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي، مبلور اهتمامه على توضيح الأول، أنه اعتمد على مرجعيات مختلفة في أسانيدها ومناهج متعددة، فكل خطاب تختلف مضامينه وأهدافه عن الخطاب الآخر، حيث كل خطاب يعتمد على مرجعية تختص به، مما يترتب على ذلك أن الساحة الدعوة الإسلامية تحوي على خطابات دينية متعددة متناقضة، وكل منها اختزل الإسلام في دعوته لمعتقدات ذات توجهات مغايرة لكل منها.
أما الخطاب الإلهي، هو خطاب واحد محدد المضمون متسق المعاني، راقيًا في الحوار، يستند للمنطلق والعقل ليتفق مع الفهم المخاطب، وهو عقل الإنسان، ذا مرجعية واحدة، خطابًا من خالق الناس لكل الناس، يدعو للرحمة والمحبة والتعاون والمساواة بين جميع البشر. وما يلبث إلا أن يعود ليتطرق أكثر فيما يتعلق بالخطاب الديني، بأن مفاهيم أصحابه ارتبطت بالظروف السياسية والاجتماعية، حتى أصبح التشريع الإسلامي مصدر خلاف واختلاف.
موضحًا أنه بسبب هذا الخلاف والاختلاف نشأت نزاعات استمرت مئات السنين؛ فأفرزت منها في العالم الإسلامي طوائف عديدة وفرق كثيرة متصارعة متقاتلة وعشرات المذاهب الدينية، لكل مذهب دعاته وأئمته، وسببت دوامة فكرية بين المسلمين وحيرة مترددة للناس في اختيار أي من المذاهب الذي يتحقق به سلامة إقامة الشعائر العادية ومصداقية الأحكام التي يتبناها كل مذهب- وأي من المذاهب يتوافق مع المنهج الإلهي.
ويرى المؤلف، أن هذا أدى إلى صراع مذهبي، فكل طائفة تعصبت لمذهب معين وتفرق المسلمون فاتبعت كل طائفة إمامًا ومعلمًا ومرشدًا؛ فأصبح كل فريق يعتز بإمامه ويعلي من شأنه ويقدس آراءه وفتاواه، ولا يرضى بغيره إمامًا واعتمد الخطاب الديني على أقوال وروايات كاذبة لتأجيج الخلاف والصراع بين المسلمين واستمرار خلق الفتن فيما بينهم، وتعصبًا أعمى أنتج متطرفين اندفعوا دون وعي أو ضمير لاستباحة كل القيم الإسلامية؛ فنصبوا أنفسهم أوصياء على الناس. وهذه الفرق المتناحرة استطاعت التغلغل في الفكر الإسلامي، وأصبحت كل منها تمتلك منهج مستقل لكل فرقة منهم يتعارض مع الفرقة الأخرى تستهدف عزل القرآن وما جاء به من قيم الحرية والعدل.
كما يوضح المؤلف فكرته مستشهدًا بالقرآن الكريم في قول الله تعالى:”اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ” (سورة الأعراف3) بهذه الآية يأمرنا الله بإتباع القرآن وحده ليكون هو المرجع الوحيد للمسلمين ليضمن لهم طريق الهداية والصلاح، ومن أجل أن يخرج المسلمون من الظلمات التي أحدثتها المرجعيات المذهبية المختلفة والمتصارعة. ويسقط المؤلف فكرته على أرض الواقع مشيرًا إلى قادة الفرق الإرهابية حينما اعتمدت على الروايات متعددة وحكايات متواترة وافتراءات ظالمة تناقلتها كتب التراث على مدى أربعة عشر قرنًا تتناقض مع القرآن، حاملين الرايات السوداء يستمتعون بقتل الأبرياء، ويستهينون بكل القيم الإسلامية حيث وصف المؤلف هذه الجماعة، بقول: “إنهم مجموعة شريرة يتضاعف أعدادها بالآلاف سعيًا وراء الوهم الموعود”.
ويعدد الكاتب الأسباب القاهرة والدوافع الضرورية التي تؤدي إلى لتشدد والتعصب، وهي مخالفة أوامر الله والانصراف عن القرآن إلى تصديق عشرات الآلاف من الروايات مصدرًا رئيسيًا للفقه والتشريع ومرجعا للخطاب الديني والرسول اشتكى المسلمين يوم القيامة في تأكيد لقول الله تعالى: ” وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (سورة الفرقان30).
ويرى الشرفاء أن أعداء الإسلام استغلوا العاطفة الدينية عند المسلمين واستدرجوا أفكارهم وأقنعوهم بروايات تداعب خواطرهم ونفوسهم، واستطاعوا أن ينفذوا إلى العقول حتى أصبحت من المقدسات فحاصروا بها العقل وجعلوا الروايات قيدًا على حريته في التفكير، شلوا قدرته عن التدبر باستقلالية النص القرآني عندما صدق المسلمون علماء الدين وشيوخه الذين احتكروا الفكر والفهم للتكاليف الدينية واختزلوا مقاصد التشريع حسب إدراكهم ونصبوا أنفسهم وكلاء عن الخالق سبحانه في الأرض وأوصياء على دين الإسلام.
ويحث الكاتب في مؤلفه على التفكير في القرآن، باعتباره فرض عين لأن الله سبحانه يخاطب العقل الذي لديه القدرة على قياس الأمور ومعرفة الحق من الباطل حتى لا يستأثر بعض من خلقه باختزال المعرفة وتعطيل الناس عن التفكير؛ فيما خلق الله في كونه حين اعتمد المسلمون على مفاهيم دينية، مقتنعين بأفكار وتفاسير تصدر لهم من مختلف الأئمة والدعاة بالرغم من تباين المفاهيم بين العلماء أنفسهم وتناقض المصطلحات عندهم.
ويوضح أن الله عز وجل أمر المسلمين بإتباع الرسول الله –صلى الله عليه وسلم- باعتباره الإمام الأوحد لهم فلا نتبع غيره إماما والمرجع كتاب الله وآياته فقط؛ فسيسأل الإنسان يوم القيامة : ” فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿٤٣﴾ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴿٤٤﴾. (سورة الزخرف 43 – 44).
ينتهي الشرفاء في كتابه موضحًا فلسفته في أن الخطاب الإلهي هو المقدس الأوحد، هو خطاب للأحياء، وليس للأموات أو الماضي وهذا يعني أن الخطاب متجدد ومتفاعل مع واقع الحياة الإنسانية المُتغيرة المتجددة أي صيرورة الحياة. يتبين ذلك في قوله : ” وبهذا يكون الخطاب ليس خطابًا للأموات، ولا هو للأمم السابقة، بل هو خطاب للأحياء الذين يتلون كتاب الله، ويستمعون إليه ويتفاعلون مع نصوصه، كي تتحقق الصلة بين الله وعباده بحبل من الله يمتد من الأرض إلى السماء، ولن يحدث ذلك الاتصال إلا من خلال الالتزام بتعاليم القرآن الكريم”.
وفي النهاية، يمكن التأكيد على أن المفكر قدم قراءة جديدة جديرة بالتأمل والدراسة تتمثل أهميتها في أنها تفتح الباب أمام المزيد من القراءات والتأويلات التي تحرر النص من هيمنة التفسيرات الأحادية والشكلانية التي صادرت النص لحسابها، وساعدت على اختطافه وسرقته من قبل التيارات الإرهابية التكفيرية.