تتميز النسخة الهندية من فيروس كورونا بأنها تجمع بين طفرتين مختلفتين، ما يجعلها تفلت بسهولة من قبضة الجهاز المناعي، كما أن الحاصلين على اللقاح وأيضا الذين تعافوا من الفيروس ، ليسوا في مأمن من فتك النسخة الهندية منه .
والطفرة (mutation) هي تغير في ترتيب المادة الوراثية في الفيروس، وبعض هذه الطفرات قد لا تترك أثرا في الفيروس، لكن بعضها قد يؤثر في قدرته على الانتقال والعدوى .
إن التداعيات الخطيرة لهذه الجائحة ألقت بكاهلها على العالم بأسره مما أدى إلى تعطيل التفاعلات الاجتماعية، وزاد في التحولات المفاجئة في الأسواق العالمية مما يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة وفرص ضائعة لأجزاء كبيرة من سكان العالم،كما أن التداعيات التي تظهر على شكل "اضطرابات اجتماعية وتشرذم سياسي وتوترات جيوسياسية"، ستشكل لا محالة عقبات خطيرة تحتاج إلى الكثير من العمل لتجاوزها .
ولكن أليست الفيروسات البشرية أكثر فتكًا وخطورة من غيرها ؟
السياسة في عمومها يمكن أن تعرف بإيجاز علمي أنها احتراف عالي في تدبير وتسيير البلدان والتحلي بالصبر وبعد النظر ودقة الإستشراف ، ولذلك كانت فعلا نخبويا وميزة لا تتأتى لعامة الناس ... ولايستقيم أَوُدُها إلا لمن يبرع في تذليل العقبات واجتياز المحن وخلق الحلول للأزمات... لهذا يطلق عليها عرفًا بأنها فنُ الممكن أو حتى فنُ المستحيل .
عند تشخيصنا لواقع المشهد السياسي في بلادنا نكاد لا نبصر بعين الحقيقة إلا القلة ممن يمكن فعلا أن يطلق عليهم -سياسيون-ولانكاد نجد رجال سياسة فعليين قادرين على صناعة ديناميكية سياسية فاعلة وتأثيث مشهد سياسي حقيقي ،كما تنعدم أيضًا المبادرات والتحركات ذات الطابع والبعد الفكري والمرجعية السياسية التي يمكن أن تقطع دابر الغوغائية والإعتباطية وتسدَٓ الفراغ السائد .
إن تذبذب القناعات وتضارب مصالح الأفراد وتنطع بعض الشخوص حرصا على المصالح الضيقة وضعف الرصيد في الحقل الإنتخابي والعمل الحزبي المنظم والإرتباط الوثيق بالأنظمة الصانعة
يفرض على الكثيرين بيع الكلام المطرَٓز بالأوهام إعتقادا منهم أن الشرعية تمرُٓ عبر الصورة أو البث !!
متى كان الخلاص في إدمان الظهور الإعلامي والحفلات وحتى في الإستئناس بمتابعة صفحات التواصل الاجتماعي بحثا عن الرأي العام وأصوات الناخبين !!
تُرى هل يدرك هؤلاء وأولائك أن خيبات الأمل المتتالية ولدت أزمة ثقة بين العمق الشعبي وكثير من الشاغلين للمشهد السياسي سواء على مستوى الأحزاب أو الأشخاص ، وأن مللًا من السياسة والسياسيين قد أصاب الجميع مما زاد مصداقية الحُكم عليهم وماذلك إلا لسرعة تحورهم الذي يعد طفرة جينية معبرة ...... عن سرعة التلون والإنتقال من ضفة إلى أخرى ، وما يصحب ذلك الإنتقال من شتائم وتسريبات وقدح حتى في الضفة التي كانت يوما توجها وقناعة وقِبلة !!
حين تختلط أوراق الطامحين والطامعين ويستنجد الوطن بأبنائه البررة تتضح ملامح العقيدة الوطنية وكأنك تبصر الكثير فلا ترى إلا : هارِباً أَو طالِباً أَو راغِباً
أَو راهِباً أَو هالِكاً أَو نادِبا !!
ويتناسى أولئك أن الوطن :
كَالشَمسِ في كَبِدِ السَماءِ وَضَوؤُها
يَغشى البِلادَ مَشارِقاً وَمَغارِبا.
قد لا يفهم البعض أن الوطن كالأم يعطي أكثر مما يأخذ ، وأن بره وحبه والدفاع عنه منوط بقدرة الإنسان على الوفاء ، وأن عينه على قلوب أبنائه لا ينظر إلى أشكالهم ولا ألوانهم ولكن ينظر إلى نقاء قلوبهم وصفاء سريرتهم وقوة اعتقادهم ، وجميل أقوالهم وأفعالهم .
فمتى ترعوي بعض القلوب عن غيها وتقطع الشك باليقين وتدرك أن البقر وإن تشابه على المرابطين المعتكفين عند أبواب المتخمَين بثروات الشعوب ، فإنه جلي لا شية فيه عند الكثيرين، وأن عبادة الواحد الأحد والتقرب إليه بخدمة الأوطان أولى من عبادة البشر، وأن تقمص الأرواح وتناسخها وحلولها مجرد أساطير وليست واقعا يُفرض في السياسة ، وأن البحث عن الخلود أنزَل من الجنة إلى الأرض فماذا بعد الأرض!!
أولسنا في الخطاب السياسي أحوج إلى قليل من الأدب والوقار منا إلى كثير من الزغردة والإطراء !! ونحن مَن ألقت أرحام الكثير من البيئات السياسية فينا ودأبت جلُٓ مدارسها إلى تكريس مبدأ المصلحة الخاصة فوق كل إعتبار .
ألم يأن لنا أن نجتمع إلى كلمة سواء بيننا أَلَٓا نمجد إلا الوطن ولا نشكر إلا المصلحين وأن نجعل حربنا على المفسدين، وأن نرقى بأسلوبنا عن سفاسف الأمور ودَرَكِ الخائنين ، فالوطن للجميع وليس لجهة ولا شريحة ولا قبيلة ولا حزب ولا شخص فمن لم يجد في الدين والوطن عروة وثقى يعتصم بها من آفات النفس وغرائزها ، ومن شرور الحمية ودعاتها ، ومن منابر المفسدين وأحزابهم ، فعليه أن يوقن أن للوطن أبناءً مخلصين تدبيرهم :
تَدبيرُ ذي حُنَكٍ يُفَكِّرُ في غَدٍ
وَهُجومُ غِرٍّ لا يَخافُ عَواقِبا
وإن المعونة على قدر المؤونة .