ما أشبه الليلة بالبارحة.
كان أول سبب مباشر للإطاحة بمعاوية هو تلك الإساءات اللفظية المتكررة التي أطلقها في اجتماعات أمنية مع نخب الجيش والأمن ضد شخصيات عسكرية وأمنية .
إساءة لاعل ولد محمد فال رحمه الله وأخرى لعزيز ؛ واخرى لولد الغزواني .
ألفاظ تحمل شحنات استهزاء وسخرية أمام الجميع.
خطيئة في علم القيادة تسببت عبر التاريخ في الإطاحة بملوك وأمراء ورؤساء لم يتخذوا مايلزم من اجراءات حاسمة يتخلصون بها فورا ممن يغلظون عليه العتاب من رجال دولتهم.
وحده السفاح العباسي كان يدرك أن عتاب قائد الجيوش يعني إعدامه فورا ؛ فقد استدعى قائد الجيوش الذي مكن للعباسيين وأباد الأمويين ؛ ووضع له كمينا من السيافين في مجلسه وقال لهم إذا إذا دخل أبو مسلم الخراساني مجلسي فسأبدأ تقريعه فإذا صفقت فمزقوه بسيوفكم ؛ وتمت العملية كما رسم لها.
عزيز كرر خطأ معاوية في إهانة قيادات الجيش والأمن ؛ فأسروها في أنفسهم انتظارا للحظة الحسم.
كانت اساءات عزيز متنوعة للجنرالات وللمدنيين العاملين معه .
من ذلك ماحدث في اجتماع أمني عام قبل سنوات حضرته مستويات من الرتب متنوعة ؛ وفي نقاش للوضع الأمني الذي كان حرجا ؛ قال قائد الجيوش الجنرال محمد ولد الغزواني إن تفصيلا أمنيا معينا فاته ؛ فقال له عزيز أمام الحضور لوكان الأمر (كذا ) لم يفتك ؛ مستخدما لفظا خادشا للحياء !
ابتلع غزواني تلك السخرية من صديقه الرئيس إلى حين.
في محطة الحملة الرئاسية الأخيرة بنشاب ؛ اتصل عزيز بقيادة الحملة في بنشاب مقترحا أن يكون غداء المرشح غزواني معه في مزرعته ؛ فاتجه غزواني بعد انتهاء مهرجانه الخطابي إلى مزرعة عزيز صحبة نائب بنشاب ؛ عند الباب لم يجدوا تعليمات بالسماح بدخولهم فمكثوا دقائق في الانتظار ثم جاء إذن عزيز بدخولهم ؛ وكأن عزيز يرسل رسائل ازدراء مبكرا للرئيس القادم بعده .
في صالة الاستقبال لم يكن احد في انتظار غزواني ورفيقه ؛ فجلسا في قاعة الاستقبال بوجوم ؛ ثم انضم لهما عزيز وهو مقطب الجبين وسلم سلاما خاليا من الحفاوة عليهما ؛ بمد يده فقط للسلام دون اي عبارات ترحيب ؛ وأدار وجهه اتجاه التلفزيون وبدأ يلعب بجهاز التحكم .
بعد دقائق أخرى جاء عامل يحمل كوب عصير ؛ ووضعه على الطاولة ؛ فاضطر النائب البرلماني لتولي بقية بروتوكول الضيافة ؛ فصب لغزواني ولنفسه وعزيز منهمك في تبديل قنوات التلفزيون !
انضم ولد امصبوع للمجلس لكنه سلم بحفاوة على المرشح الرئاسي والنائب المرافق له.
ثم انضمت تكيبر وبشرايه للمجلس .
لم تكن هناك مائدة ضيافة ولا لغة احتفاء بمرشح رئاسي يفترض أن زميله الرئيس يدعمه!
بعد تسليم عزيز للسلطة وسفره ؛ حرص غزواني على التواصل معه هاتفيا بصفة يومية ؛ مرتين أو ثلاث ؛ إلا في يوم واحد هو يوم سفر غزواني إلى ألمانيا لعيادة حرمه التي كانت تجري عملية في القلب.
اتصل عزيز من ايرلندا مخطرا غزواني بنيته زيارتهم في ألمانيا ؛ فرد عليه غزواني أن لا داعي لذلك ؛ فحالة حرمه الصحية لا تتحمل الزوار ؛ وشكره على ذلك.
لاحقا عاد عزيز للوطن وتلقى اتصالا هاتفيا من غزواني فور هبوطه من الطائرة بلغة ترحيب ومجاملة لكن عزيز كان يقاطع غزواني بالسؤال عن الحزب وحقيقة مايجري فيه؛ فقال له غزواني سنلتقي بعد زيارتي الرسمية للسنغال لنناقش ذلك كله ولن يكون إلا خيرا .
لم ينتبه عزيز للموعد ؛ فاتجه اليوم التالي إلى مقر الحزب قبل أن يقابل غزواني ، وكان ذلك أول خطإ تقديري من عزيز ؛ فوجد أمامه حزبا غير الذي راهن عليه.
بعد عودة غزواني من دكار اتصل به عزيز فدعاه غزواني للعشاء معه في المنزل الرئاسي وقال له انت متعب بسبب كثرة الزوار فارتح منهم الليلة معي .
كان رد عزيز صادما لغزواني حين قال سأمر بك في المنزل الرئاسي (يغير مان متعشي معاك).
جاء عزيز وكان متوترا وكانت لغته غير مهذبة وكأنه يحاكم الرئيس غزواني .
كيف تعيين شخصا يكرهني مديرا للديوان ؟
غزواني: كل رئيس يختار عادة اهل ثقته ومدير الديوان محل ثقتي
كيف عينت محمد عالي ولد سيدي محمد على مؤسسة الكهرباء وهو من خصومي
غزواني عينته لانه كفء ويحمل شهادة عليا ولديه خبرة وآمل أن يصلح هذا القطاع .
وقد طلبت مني شخصيات وازنة من اهل الساحل تعيينه ؛ منهم الرئيس الأسبق هيداله واخرين.
وانت تعرف جيدا أني كنت أوصيك على شخصيات هو منهم .
كيف عينت (صيد أولاد الناصر على الإذاعة ) وهو يكرهني .
غزواني هو من الشخصيات التي كنت أوصيك عليها ؛ فكيف لا أعينه وانا الرئيس.
كيف كرمت الصحفية منى بنت الدي وهي تسبني دائما
غزواني : السيدة منى بنت الدي وجه إعلامي وقد سألت ولد احمد دامو عن ملفها فشرحه لي وامرت بتصحيح وضعها ؛ ولا أرى سببا مقنعا لحديثك عنها.
واسترسل عزيز في الاحتجاج بلغة غير مهذبة على تعيينات كثيرة منها الوزير الاول ولد الشيخ سيديا ووزير الداخلية وغيرهم.
ثم بدأ ملف الحزب ؛ ولما قال غزواني لعزيز إن الحزب حزب الدولة وهو مرجعيته ولا إمكانية للسماح لعزيز بقيادته ؛ احتد كلام عزيز وخرج فجأة وسد الباب بقوة توحي بقلة أدب وذهب ؛ لكنه نسي هاتفه على الطاولة في مجلس السكن الرئاسي ؛ وقد أرسل لاحقا من يجلبه له.
كان غزواني متأثرا من سلوك صاحبه الذي كان فجا وخارجا عن المالوف ؛ ومن جمله التي تنضح غضبا وشططا (انت تنكرت لي انت سيطرت عليك اجمعيت المعارضة ).
طرف ثالث ثقة تواصل مع غزواني وعزيز فاجتمع بعزيز نفس الليلة ؛ وسمع منه نفس الملخص ؛ ثم اجتمع بغزواني وسمع منه نفس الملخص ؛ لكن مصداقية كلام غزواني كانت بارزة ؛ فقد رحب بكل شيء يريده عزيز غير الشراكة السياسية في الحزب والشراكة في القرار .
وكما قال فهو قد أقسم القسم على صيانة سيادة البلد ومصالح شعبه ؛ ولن يخون القسم مهما كان.
عزيز من جانبه كان قد قال باللفظ إن قصة مرجعية الحزب مستعد للتضحية من أجلها بدمه.
تكررت محاولات الوسيط الأمين بين المحمدين ؛ فكان يتلقى كل القبول من غزواني وكل الرفض من عزيز.
وقد أنذر عزيز من مصير قاتم ينتظره هو ومن معه فكان رد عزيز
(أنا اكثر من راصي).
تدخل والد عزيز بتوجيه من وسيط الخير وطلب منه أن يبتعد عن امور البلد ويترك موريتانيا لأهلها فرفض عزيز ذلك تماما.
وقال والد عزيز للوسيط (محمد ماكط عاد يسمع من مزال اسغيير)
ظلت لغة عزيز اتجاه غزواني لغة غير مهذبة ؛ وكان يسمع ذلك لكل زواره .
وتتفق كل مصادري أن غزواني لم يترك له عزيز خيارا غير خيار المواجهة ؛ وحتى الآن يدار ملف عزيز بلطف نسبي ؛ فالجميع يدعو لسجنه ومحاكمته وحسم ملفاته بصرامة ؛ لكن غزواني لم يتخذ قرارا بذلك بعد.
صحيح ان ملف فساد العشرية دار ولن يتوقف قبل محطة الحسم ؛ لكن إدارته بطيئة وثقيلة .
عزيز انتهى لكنه هو الذي ضيع كل فرص النجاة وكل نصح الناصحين ؛ وضيع صديقا من وزن ثقيل لم يكن يريد أن يخسر احدا أو أن يترك أثرا سلبيا في نفس أي مواطن.
لقد غلب الغرور على الحكمة والحماقة على العقل ؛ فضاع عزيز وضاعت أحلامه بالثروة والسلطة.
كانت خطة عزيز للعودة إلى السلطة ساذجة ؛ وهي أن يجعل من جنرال مثقف وشخصية قيادية دينيا واجتماعيا وشخصية يحترمها الجيش ويحترمها المدنيون (بو) يتركه في الواجهة ويدير الدولة من خلفه.
غزواني رغم صداقته الطويلة مع عزيز كان يعرف عزيز جيدا ؛ لكن عزيز لم يكن يعرف شيئا عن عمق غزواني ورسوخ أركانه في أعماق لا طمع لسطحية عزيز فيها.
إقامة جبرية مريحة بالبيت تكريم لا يستحقه عزيز ؛ لكن مروءة غزواني ونخوته حاضرة حتى مع من خطط لانتزاع السلطة من يديه بكل الوسائل المتاحة.