شهدت العاصمة نواكشوط، بحر الأسبوع الماضي، يومي 16 و17 مارس، حدثا هاما، هزّ الساحة الحقوقية وقعُه وشكّل منعطفا بارزا في مسار تعزيز الحقوق والحريات في بلادنا. حيث انتظم بقصر المؤتمرات، تحت الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية وبدعم ومواكبة من الحكومة، ممثلة في مفوضية حقوق الإنسان والعمل الإنساني والعلاقات مع المجتمع المدني، المؤتمر الإقليمي للمنظمات المؤسسة لمنتدى مجموعة الساحل الخمس لمكافحة الرق، تحت عنوان: "لنجعل من مكافحة الرق معركة مشتركة وتوافقية بين المجتمع المدني وحكومات دول الساحل".
دعا إلى تنظيم هذا المؤتمر في بلادنا، النائب البرلماني بيرام الداه عبيد، رئيس حركة إيرا. وتوافد إليه من جميع أصقاع المعمورة، مشاركون وناشطون حقوقيون مشهود لهم تاريخيا بالنضال ضد الرق وأشكاله المعاصرة في بلدانهم. وعلى مدى يومين، ناقش الجميع بكل حرية، المواضيع المتعلقة بالرق في منطقة الساحل، مستعرضين تجارب المنظمات المشاركة في مجال محاربة الرق ومعالجين أوجه الظاهرة النفسية والاجتماعية، أسبابها وتداعياتها وأهم التحديات التي تعيق المكافحة الفعالة للظاهرة علاوة على الآفاق المستقبلية للمنتدى.
تم كل ذلك في جو من الحرية والاستقلالية، بعيدا عن مقص الرقيب، وبدون محظورات. بل شارك ممثلون عن الحكومة في جلسات النقاش وحاوروا المشاركين، مبرزين مدى التقدم الحاصل في بلادنا، في مجال مكافحة الرق وأشكاله المعاصرة. مما حدى بالمشاركين والمراقبين إلى التثمين العالي للدور الكبير الذي لعبته الحكومة لإنجاح هذا الملتقى، طالبين من الحكومات في البلدان المجاورة أن تحذوا حذو بلادنا في تبني مقاربة الانفتاح على الجميع ونبذ الإقصاء والتهميش لكل من يخالفهم الرأي.
يأتي تنظيم هذا الملتقى تكريسا لمناخ التهدئة والانفتاح السائد وتجسيدا للإرادة السياسية الهادفة إلى إشراك جميع الفاعلين بغض النظر عن انتماءاتهم وولاءاتهم، ومواجهة العوائق والمعضلات بدل التستر عليها ولملمتها.
إن في انعقاد هذا المؤتمر ببلادنا، الذي يناقش موضوع الرق، الذي كان حساسا لدى البعض، والذي دعت إليه حركة إيرا، التي كانت بالأمس القريب محظورة، عدة دلالات ورسائل. أولها التأكيد على أن السلطات العليا في البلد عاقدة العزم على القضاء نهائيا على الرق وأشكاله المعاصرة، لما تشكله هذه الظاهرة المشينة من خطر حقيقي على وحدة وتماسك مجتمعنا، وتهديدٍ للتعايش السلمي بين مختلف المكونات، فضلا عن إعاقة عجلة التنمية وتأخير وتيرة الإصلاح.
ثاني هذه الدلالات، هي البرهنة على أن الجهود الحكومية لمحاربة الرق وأشكاله المعاصرة قد آتت أكلها بالفعل. وبأن جدلية وجود الرق في موريتانيا من عدمه، أصبحت متجاوزة ولم تعد تتصدر المشهد الحقوقي. فالعبودية في موريتانيا تعتبر، دستوريا وقانونيا، جريمة ضد الإنسانية وغير قابلة للتقادم، ولها إطارها القانوني والمؤسسي الصلب الناظم لمكافحتها (القانونين 031-2015 و017-2020، المحاكم المختصة بمحاربة الممارسات الاستعبادية، مأسسة المساعدة القضائية المجانية لضحايا الرق علاوة على ما تقوم به مفوضية حقوق الإنسان واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان من حملات تحسيس وتوعية ضد الرق وكذا نتائج آليتهما لاستقبال ومعالجة الشكاوى). فهي إذا كغيرها من سائر الجرائم التي يعاقبها المشرع.
الدلالة الثالثة هي أن المعركة الحقيقية هي معركة القضاء على الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي خلفتها هذه الظاهرة. وهو ما يشكل محوراً ذا أولوية لعمل الحكومة، منذ تولي فخامة رئيس الجمهورية الشيخ محمد الغزواني لمقاليد السلطة. ولعل إنشاء المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء (تآزر) ومصادقة مجلس الوزراء مؤخرا على خطة "إنصاف" لتعزيز اللحمة الاجتماعية والمواطنة والقضاء على كل أشكال التمييز الاجتماعي والثقافي، خير دليل على ذلك.
لقد شكلت الانطباعات التي خرج بها المشاركون من المؤتمر والشهادات التي سجلها المدعوون القادمون من الخارج، عبر وسائل الإعلام العمومية والخصوصية ووسائط التواصل الاجتماعي، عن مدى انفتاح بلادنا على الجميع ومدى تقدمها في مكافحة الرق وأشكاله المعاصرة، انتصارا حقوقيا كبيرا للحكومة، سيكون له ما بعده. وينضاف إلى سجل الانتصارات الحقوقية الحديثة، كاعتماد قانون الجمعيات الجديد الذي سمح بتأسيس نظام التصريح لتكوين الجمعيات، عوضا عن نظام الترخيص المسبق، وانتخاب بلادنا عضوا في مجلس حقوق الإنسان ورفع تصنيفها الدولي في المستوى الثاني على مؤشر مكافحة الاتجار بالبشر.
فعلى الجميع أن يعي الدرس الذي تم تقديمه من خلال انعقاد هذا المؤتمر في بلادنا. لقد أصبحنا مثالا يجب الاحتذاء به في المنطقة. وكلنا أمل أن تنهج دول الساحل وشبه المنطقة نهج بلادنا في الانفتاح على المنظمات الحقوقية الجادة والناشطين الجمعويين المخلصين، الراغبين في صناعة التغيير في بلدانهم وتحسين صورتها ومكانتها بين مصاف الأمم.
سيدي محمد الإمام