لقد كان التقرير الذي نشر ناجحا إلى حد كبير، وقد وفق في كشف الأحوال السياسية بشكل عام في ولايتي الحبيبة النعمة بشكل عام، لكنه عنما حاول كشف وتفكيك الرموز الأمنية السياسية، ووسائل ضبضها الحقيقة، وحالتها من حيث الوضعية الداخلية لمقاطعتي (جگني) لم يستطع سبر أغوارها، وتقديم حالتها السياسية بشكل مفصل، ولا وافي بالمقصود، أو أن جهاز الداخلية فيها كان دون المستوى المطلوب من النشاط، أو ألمعية الفكر، أو التألق الوظيفي، حيث لم يفلح في رسم الخارطة السياسية التي تتشكل في الوقت الراهن، ولا محددات الخارطة التقليدية القادرة على التشكل في أي وقت -إذا ما أريد لها ذلك- ولا هو أفلح في تحديد الفاعلين السياسيين الكبار في المنطقة حصرا، حتى ولو لم يكن لهم نشاط سياسي في غير المواسم الإنتخابية.
صحيح أن هنالك نشاط جديد صاحب تعيين الأخت الفاضلة والوزيرة؛ توت بنت المحفوظ خطري، وصحيح أن لدها مقومات لإعادة رسم خريطة جديدة في المنطقة قوامها من قطبين:
الأول : قديم قائم على الحلف التقليدي والمكون القبلي الضيق للأسرة السياسية العريقة،
الثاني : هو قطب شبه حر، تشكل نتيجة فقدان البوصلة مع تهميش النظام السابق للأسرة، وسوء إدارة المرحلة من لدن المسيطر النافذ حين ذاك في المنطقة.
لكن ومع كل ذلك لم تنطمس كليا جذوة التوقد الذي كان يطبع المرحلة الماضية؛ أيام القطب الواحد، مع فترة التمكين للوزير الأول السابق؛ يحي ولد حدمين.
ففي تلك الفترة؛ رغم أن الظروف كانت مواتية لإعادة تشكيل لوحة موحدة الألوان والاتجاهات، إلا أنها لم تتشكل وفاء لِعُقَد الماضي، وعدم النضج السياسي، وإعطاء الثقة لغير أهلها؛ في محاولة لتشتيت الأطر القديمة، بما يشبه الثورة على كل القديم، وهو جزء من تجليات الطابع العام لعشرية محمد ولد عبد العزيز، وهو الأمر الذي ساعد في ظهور شخصيات لم يكن لها وزن، وأعتقد أن نجمها قريب الأفول، بل عند أول استحقاقات قادمة.
أما ذكر التقرير لعائلة أهل عبدي ولد أجيد في التقرير؛ فكان ينقصه الوعي بحقيقة تاريخ هذا الأسرة، ولقد ذكر أنها "تستعيد مكانتها على رقعة الشطرنج" حسب تعبيره، وهذا تنقصة الدقة في الوصف، حيث لم تفقد الأسرة يوما سيطرتها على رقعة واسعة من مساحة المقاطعة، لكن هذه الرقعة تطبعها الحركية الدائمة مع تعدد أقطاب القيادة في الأسرة العريفة، ومع عدم التمثيل في الحكومة، وهي الميزة التي تجعل التحكم في الاتجاه أقوى، حيث لا توجد وسائل للقيادة إلا بالمحركات العامة (المال العام) المرتبط هو الآخر بالتمثيل في الحكومة واستغلال وسائلها، وهو الأمر العام الذي يطبع السياسة الوطنية بشكل عام.
استفاد هذا القطب ( قطب أهل عبدي) من جو التهدئة السياسية، ومن انسجام الفاعل الجديد المنشق عن حزب تواصل : إسلك ول حيده؛ مدير معهد ورش، والفاعل الكبير في سياسة المكون التقليدي للأسرة أهل عبدي ولد أجد.
ذكر التقرير حلف أهل بي مع وزير العدل؛ وكان ذلك فقط من باب الأدب مع الوزير، فلا وجود على الخارطة السياسية لمقاطعة جگني لمساحة سياسية لمكون فاعل له تأثير باسم أهل بي مطلقا، ولا يملكون غير حق السكن في وطنهم وحق الجيرة الطيبة، وحق احترام محظرة درس فيها بعض أبناء المنطقة، حيث لا يمكن أن تتشكل وحدة انتخابية باسمهم، إلا من خلال التنسيق مع احلاف لها ولاءاتها المعروفة والمشهودة.
أما عن إعادة التنظيم في مكون مشظوف مع رئيس سلطة التنظيم؛ فهذا تنقصه الدقة، فولد عوان ليس هو الفاعل الرئيسي لمكون مجموعة مشظوف في المنطقة، وإن كان يحاول الظهور بمظهر المعتدل الجامع لمكون مشظوف، والمنقسم على نفسه في مجموعات في شبه المنطقة، وأعتقد أن لكل مجموعة من هذه المجموعات قيادة قادرة على الظهور، وإيجاد نفسها في حيزها الجغرافي، دون الحاجة إلى التنسيق مع رئيس سلطة التنظيم (ولد عوان) الذي لا يمثل أي قيادة تقليدية لأي من هذه المجموعات.
لقد كان التقرير ناقصا وغير موضوعي، بل كان مستفزا؛ حين أغفل فاعلين سياسيين، ووازنيين، وأقطابا من أقطاب الكتلة السياسية في المقاطعة، لم يحيدو يوما عن السياسة العامة للدولة؛ حيث تجاهل الفاعل السياسي والنائب الذي لم يفشل في الحفاظ على مقعده في البرلمان منذ إنشاءه : الطالب مصطفى ولد محمد الأمين ولد سيدى عبد الله، صاحب الشعبية العريضة، وسياسي المنطقة، ومركز الثقل الاجتماعي التقليدي ووريث القيادته التقليدية أهل محمد الامين ول سيدي عبد الله، وتجاهل التقرير أيضا حلفه ( حلف الطالب مصطف) : الشريف الشيخ إطول عمر ولد سيدين، الشيخ المربي صاحب الاتباع الكثر، والقادر (الوحيد) في المنطقة - بعد قدرة الله- على اعطاء وعد بعدد من الأصوات معلوم القدر والولاء.
هذا وقد تجاهل التقرير أيضا بعض الفاعلين المؤثرين، أصحاب التأثير الإيجابي والكبير، إذا أرادوا ذلك، رغم غضهم للطرف عن السياسة المحلية، والترفع عنها، وتركها للفاعلين المذكورين أعلاه.
تأملات عاطل