ذهبت الكاتبة والنحاتة والتشكيلية السورية المقيمة في ألمانيا سوزان العبود، في معرض نقدها للمنزع الطائفي والعرقي الذي أعاق بارتهانه للوعي على نطاقات الخطاب والممارسة، نشوء الدولة الحديثة ككيان سياسي لمجتمع عربي، يواجه قوة حركة تقدم التاريخ بهزالة زاد الماضي، إلى المسعى «الصفري» في الارتجاع الجزئي والتجزيئي للذات» على حساب ضرورات الانسياق خلف موضوعيات التاريخ ذاته، عبر إعادة الإنشاء الوجودي الجمعي، على قيم الإنسانية التي أفرزتها التجربة البشرية الطويلة، وأشارت إلى أن دعوتها للأنسنة المرجعية المعرفية والأخلاقية، لا تعني الانخراط في نسق معرفي خاص يرفع، أو يترافع بالنزعة الإنسانية، حتى لو كان متأتيا من نموذج معرفي طاغ بعينه، كونها تنتقد واقع الدعاوى الإنسانية الغربية، التي لم تصل حسبها إلى عمق الألم البشري، إذ ظلت طافحة على سطوح الخطابات النخبية، في مجالس الجدل الفكري والنظير السياسي، في حين أن القرارات الإستراتيجية ذات الفعل والفاعلية الميدانيين باقية في يد القوة البراغماتية، تدك في صراعاتها الحضارية كل الحصون الثقافية والحضارية.
طرح الكاتبة والتشكيلية السورية، الذي يعطي صورة عن عمق أزمة المفهوم للظاهرة الإنسانية وسبُل تطبيقاتها على صنوف المعرفة والسياسة، يحلينا بالضرورة إلى مجموعة من الاستفهامات المتصلة بإشكال إسهامات نسقيات التأنيس والأنسنة الغربية، في خلق حروب وصراعات الإنسان الباردة منها والساخنة، في ظل تقلص مساحات المناورات، بعد انبلاج عصر العولمة وسباقاته المحمومة من أجل الاستحواذ على مصادر التمويل والمواد الأولية وأسواق العالم والسيطرة بالتالي على التاريخ.
فالإنسانية التي تنتج داخل «الأوعية الناعمة» من رؤى لأصل الوجود ورسم المخيال والخيال الأدبي للنفس في مسرح صراعها الأبدي الخير والشر، لا تنفك بعد عن الانبثاقات الأيديولوجية وأطاريحها المتصلة بخط نسقي معين، فهي لكونها تفسيرات وتأويلات لطبيعة الذات الإنسانية التي لا يزال فاعلها الأول الإنسان في انوجاده ولغزية وعيه، هدفا لسهام المعرفة ومبضعها التشريحي، محل جدل وسجال نموذجي نسقي بين مختلف الاتجاهات، لم تبرح نطاق التفسير الذاتي لتستقر عند إجماع موضوعي، ولا يمكن التكهن بقرب أو إمكانية وصولها إلى مرسى كهذا.
الإنسانية هي محصلة التاريخ في رؤى التطبيقات، والتاريخ مثلما يقال عنه يصنعه المنتصر، بصرف النظر عن آليات الانتصار وقوانين المعركة التي أفضت إلى انتصاره، لذا ليس من الغريب أن ترى مثقفين وكتابا عربا انزاحوا عن حقائق التاريخ في واقعه القطري، والتحموا بالمنزع الإنساني الذي رسمه الاستعمار، رغم ما فعله هذا الأخير بقطرياتهم! وهنا قد يعترض أحدهم بالقول إن المسافة بين التأنيس المعرفي والممارسة السياسية «للأنسنة» كبيرة جدا، وينبغي عدم إغفالها أثناء إقامة الميزان النقدي لواقع الإشكال، كلام في ظاهر سياقه صحيح، لكن في غائلته ترقد المغالطات الكبرى، فالمثقف النقدي الغربي الذي ينادي بالأنسنة السياسية مثلا، سرعان ما تخف حدة خطابه النقدي حين ينتقل من حقل الرؤية داخل «الوعاء الناعم» إلى حقل المصلحة السياسية وحساباتها الإستراتيجية، التي تدوس الأنسنة والإناسة وغيرها من منحوتات الاصطلاحات المستأنس بها في صالونات العقلانية المجردة.
إذن هي إشكالية المرجع المفهومي والمفاهيمي لموضوع الإنسانية، الذي يرتبط حاليا بالتفسير الغربي لها باعتباره مركز التاريخ حاليا، ولا يسع الأطراف بوصفها دائرة في فلكه أن تتبناه، ليس باعتباره حقيقة موضوعية، بل ذاتية فرضتها التجربة الإنسانية المكتوبة بلغة القوة وقوة اللغة، اعتبارا لمحورية القوة واللغة في الهيمنة الحضارية لأي اتجاه كاسح. فهل يمكن وسياق التحليل كذلك أن نتجرد من الخلفية الذاتية، ونحن بصدد مقاومة الوعي الطائفي حسبانه قامع الآفاق وقاطع طريق في العالم العربي نحو تحقيق تعايش تعددي ومتنوع، بحجة الالتزام بالانتماء «الأكبر» أي الانتماء الإنساني؟ بمعنى آخر هل الإنسانية المشكلة وفق معقولية «التاريخ» قابلة لأن تغنينا عن الحاجة إلى العناوين الصغيرة المؤسسة للهوية؟
سؤال يظهر في البدء كما لو أن الهوية الصغيرة والتمحور حولها هي ليست منتج التاريخ في تداول أحقابه، وأنها بذلك ضد منطقه، وبالتالي ضد مفهوم الإنسانية الذي تأملته وأملته القوى الرائدة في التاريخ، محصلة ذلك تعني أن الإنسانية بوصفها حقيقة الطبيعة الوجودية للبشر متحولة ومتطورة في التاريخ، بل وقاطعة من صيغها الماضية، والأمر قد يخرج عن سياق البعد الإنساني في بنيته البشرية، إذا ما سُلمت أو استسلمت الإنسانية لقانون حركية اصطخاب الوجود الدائم، وحركية أشيائه المستمرة، ولعل هذا ما يفسر بالضرورة انكسار مدلولات معنى وعي الإنسان بذاته وانفصل في ذلك الدال عن المدلول، وأوضح ما يُجلي ذلك النزاع الفلسفي والعلمي حتى الحاصل في نطاق هوية الإنسان الطبيعية بعيدا عن الهويات الثقافية الذاتية، ما أفرز بنيات حياتية أخرى كسرت بديهيات ومسلمات شكّلت مد وعي الإنسان بذاته، كالانمحاء المطرد لمؤسسة الأسرة، شرعنة الزواج المثلي، وفتح مبدأ الزواج البشري للحيوانات، إثر شيوع ظاهرة معاشرة الحيوانات zoophilie باعتبار ذلك حقا إنسانيا تشترطه الموضوعية «الإنسانية» في سياق تطورها الدائم فوق سقف الأخلاق، باعتبار هذه الأخيرة المائز الخلائقي في صنف الدرجات حسب النصوص المنقولة والمعقولة في المعرفة والثقافة البشريين.
خلاصة القول إن النزوع المفهومي «الإنساني» المتجاوز للخلفية الثقافية بمنقولها ومعقولها، لا يمكنه حلحلة الاغتراب التاريخي السياسي الذي يعانيه البشر، ومنهم العرب في واقع كيانهم القُطري، طالما أن هاته «الإنسانية» استقرت بتجردها من المرجعية، عند مستويات إنتاج وإعادة إنتاج الخيال الفني وفن الخيال، ولم تستطع أن تنفذ إلى حقيقة الواقع البشري الذي تكاد تتلاشي منه قيمة وقيم الإنسان بوصفه إنسانا!
٭ كاتب جزائري