- حاوره (عزالدين المناصرة –القاهرة – 1965)
محمد الفيتوري، الشاعر السوداني من كبار شعرائنا العرب، الذين جددوا في الشعر العربي الحديث في أشكاله ومضامينه، والشاعر الوحيد الذي غنى إفريقيا آلامها، وعبر عن قضية الملونين تعبيراً شعرياً يصل إلى مصاف الشعر العالمي. له من الشعر ديوان “أغاني إفريقيا”، وصدر له عن دار الآداب في بيروت ديوانه الثاني “عاشق من إفريقيا”. ومحمد الفيتوري، يتميز بهاتين الميزتين: الخصوصية الإفريقية، والتجديد في الشعر، وإن كانت الثانية مشتركة مع أخرين.
- أستاذ محمد، أين ولدت، وفي أي سنة، ومتى نظمت الشعر؟
الفيتوري: ولدت في منطقة غربي السودان في مدينة اسمها “الجنينة” في عام 1930، ولكن مع هذا فأنا مركب من أجناس عربية مختلفة، فأبي سوداني، وأم أبي من تشاد، وجدي لأمي من ليبيا. أما من ناحية نظم الشعر، فقد نشرت لي أول قصيدة سنة 1947، في مجلة الاشتراكية.
- هل تتفضل بإعطاء القراء مختصراً عن حياتك منذ ذلك الوقت؟
الفيتوري: درست في كلية دار العلوم (جامعة القاهرة) وحصلت على درجة الليسانس سنة 1967، وتوليت رئاسة تحرير جريدة اسمها “النيل”، في السودان وقد كانت هذه الجريدة معادية للجمهورية العربية المتحدة، لهذا تحملت أوزار الجريدة، لأنها كانت مطبوعة بالطابع الحزبي. ثم ترأست تحرير مجلة “الإذاعة والتلفزيون”، وجريدة حرة اسمها “التلغراف”، وقد اضطهدت وحرم علي الخروج من السودان، ولكنني هربت قبل ثورة 21 أكتوبر بدون تأشيرة. وأعمل الآن منذ شهور في إذاعة ركن السودان، في القاهرة، بعد أن شُكلت الحكومة الجديدة.
- ولكن كيف هربت إلى الجمهورية العربية المتحدة، وقد كنت رئيساً لتحرير جريدة “النيل” المعادية لها؟
الفيتوري: في الواقع لقد حسّنت علاقاتي بالمسؤولين في الجمهورية، وهم في نفس الوقت عاملوني معاملة طيبة، وعفو عما مضى. وشعرن أن المتحدة ملاذي، فعملت في جرائد الأخبار والجمهورية.
- هل قلت شيئاَ في ثورة 21 أكتوبر؟
الفيتوري: قلت قصيدة يحفظها السودانيون الآن، فهي قصيدة الثورة: (أصبح الصبح فلا سجن، ولا السجان باقي… وإذا الفجر جناحان يرفان عليك… وإذا الحزن الذي كحّل هاتيك المآقي… والذي شد وثاقاً لوثاق… والذي بعثرنا في كل واد… فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي…).
- قرأت مقدمة محمود أمين العالم لديوانك الأول (أغاني إفريقيا) فلم لم يقدم أحد لديوانك الجديد؟
الفيتوري: أنا لا أحب النقديم، ولكن لتقديم الديوان الأول قصة، وهي أن محمود أمين العالم هاجمني بشدة في المجلات، ولكنه أصر على تقديم الديوان، فقدمته له، مع العلم أن المقدمة فيها نقد لاذع.
- ما هو إنتاجك الأدبي حتى الآن؟
الفيتوري: لقد كتبت مسرحية شعرية اسمها “الأميرات ذات الهمة”، وديوان شعر اسمه “في طريق الأبدية”، وديواناً ثانياً اسمه “ديوان ابن الفيتوري”، ولكنها كانت مطبوعة بالطابع الكلاسيكي، فلم أطبعها، لأنني غير راض عنها، وأنوي حرقها خوفاً من نشرها. وإنني لأعجب للذين ينشرون بعض قصائد شوقي تحت عنوان (شوقية لم تنشر)، لأن شوقي لو أراد لنشرها، فكيف ننشرها نيابة عنه. وهذا ما حدث مع المرحوم أبي القاسم الشابي.
- هل يمكن للأديب أن يعيش من أدبه؟
الفيتوري: بطبيعة الحال “لا”، فلو استطاع الأديب أن يعيش بأدبه لما كانت الانحرافات. وخير دليل على ذلك المرحوم الشاعر بدر شاكر السياب، الذي وقع في التناقضات بسبب عسر العيش.
- نراك تركز على قضية الملونين في إفريقيا (الزنوجة) مثل سنعور، وأنت تقول: (قلها لا تجبن لا تجبن… قلها في وجه البشرية… أنا زنجي… وأبي زنجي الجلد… وأمي زنجية…)، فأنت تعترف في قصائدك، بأنك زنجي، وأن لونك أسود، مع أن وجهك فيه سمرة عربية واضحة، والزنوج أنفسهم يحبون التهرب من الكلام عن هذا اللون، كما لدى بعض الشعراء الأفارقة.
الفيتوري: لقد عبرت عن آلامي الخاصة، جعلتها عامة على كل الزنوج، وأنا أؤمن بالعقدة الموروثة “اللون”، وسأبقى أعبر عن نكبة الزنوج، ونكبة إفريقيا عامة. وأنا أحاول دائماً كسر عمق الشعور بالعقدة.
- لكل قصيدة تجربة، فما تجربة قصيدة “تحت الأمطار”، التي تقول فيها: (أيها السائق رفقاً بالخيول المتعبة… قف فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبة)؟
الفيتوري: العربة هنا هي الحياة، والخيول هي الإنسان، والسائق هو القدر والظروف المختلفة، وأنا في الحقيقة أكتب وأرسم الصورة، وهي الصورة العادية، ولكن هذه الصورة العادية، تدل على أبعاد عميقة مكتنزة في الباطن.
- متى بدأت التجديد في الشعر، وما هي مبررات وأسباب ذلك؟
الفيتوري: بدأت بالتجديد سنة 1949. وأنا لا اعتبر الشعر القديم قيداً كما يراه الذين يدعون التجديد، ولكني اعتبره تراثاً لا يمكن أن أنكره. ولكنني بتجديدي أضيف جزءاً آخر من التراث، ولهذا أسباب منها:
- كان التجديد في البداية مجرد (موضة)، ولكنه كان أيضاً تلبية لاحتياجات معاصرة، حسب إيقاعات تتطلب تغييراً في الشكل والمضمون.
- الشكل الجديد، يساعد على عملية الإثراء، فالصورة في الشعر القديم هامشية، أما في الشعر حديث، فالصورة تأتي كعنصر هام في البناء وكعمل حيوي.
- القوالب القديمة، استهلكت، فبدأت تفقد مضامينها في الاستعمال، لذا لا بد من البحث عن أدوات جديدة.
- الرتابة الموسيقية التقليدية، لم تعد تتناسب مع الحركة السريعة للإنسان الجديد، فالبيئة الصحراوية تحتاج إلى موسيقى بحور الخيل، أما الآن، فقد اختلفت الحياة، وتغيرت الإيقاعات الإنسانية الصوتية، فلا بد من تغيير الموسيقى.
- دخول أشياء وقضايا جوهرية جديدة في حياة الإنسان العربي.
- الشعر المعاصر، يؤدي إلى التفاصيل والجزئيات، ويقف عند الخلجات والنبضات.
- تكرار استعمال الكلمات التالية في قصائدك: الناقوس – التابوت – النبي – المقبرة – الخيول – السيوف – المومياء… إلخ. فما هو السبب، وهل لها مدلولات عندك؟
الفيتوري: الكلمات رموز داخلية في الباطن، لعلها تكونت من مشاهدات في صغري أو عن طريق الوراثة، وأنا أؤمن بالوراثة إيماناً عميقاً.
- ما رأيك في شعر فلسطين، هل هنالك شعر يصل إلى المستوى الذي نتوخاه؟
الفيتوري: هناك أسماء لامعة في شعر النكبة أذكر منهم: معين بسيسو – هارون هاشم رشيد – فدوى طوقان – أبو سلمى – و(شعر ما بعد النكبة)، مثل: وعزالدين المناصرة. وقد تكون هناك أسماء لا أعرفها لأنني عزلت في السودان طوال ستة أعوام عن أدب البلاد العربية، فأنا اعتذر لهم. ولكن أستطيع أن أقول القصيدة العظمى عن المأساة، لم تكتب بعد..
- ما رأيك في أدب وشعر كل من الأدباء التالية أسماؤهم بصراحة؟
- صلاح عبدالصبور: تأثر بإليوت تأثراً كبيراً، ولكنه أخرج لنا قصائد عظيمة، وصلاح ضعيف العبارة،ولكنه ذكي.
- أحمد عبدالمعطي حجازي: قوي العبارة سليمها، ولكنه ليس مثقفاً كصلاح.
- البياتي: مثقف ومطلع على الآداب الأجنبية، تجاربه جديدة وناضجة، توفرت له الإمكانيات الكثيرة، ولكنه لم يستغلها.
- عزيز أباظة: استمرار لشوقي في مسرحياته في مناخ لم يعد مناسباً.
- محمود حسن إسماعيل: الأب الشرعي للتطورات الشعرية الجديدة، وهو شاعر أصيل أحترمه من كل قلبي.
- بدر شاكر السياب: له أعمال شعرية جيدة، أعظمها أنشودة المطر.
- ما رأيك في الشعر النسوي: فدوى طوقان، ونازك الملائكة مثلاً؟
الفيتوري: فدوى أعمق في ملامسة التجرية الإنسانية، أما نازك، فهي أقدر على فهم التجربة. وفدوى ترى طابع شعرها العربي بعكس التغريب عند نازك. وفدوى عبرت عن النكبة عامة وهي قادرة على التعبير عن نكبتها الذانية، فهي تحولها إلى نكبة عامة، بعكس نازك، فهي لم تخرج من قوقعتها الذاتية، وحتى المشكلات العامة تحولها إلى ذاتية. ثم هناك عند فدوى ميزة واضحة في شخصيتها الشعرية.
- ما رأيك في الحركة الأدبية الحديثة في السودان؟
الفيتوري: في السودان شعراء، ظهر منهم: (محمد المهدي المجذوب – محيي الدين فارس – جيلي عبدالرحمن – تاج السر الحسن – محمد عبدالحي – ويوسف عايد أبي). ولكن هناك معوقات منها: انعدام دور النشر، وضآلة الاتصالات بالأقطار العربية. لذا فقد أصبح شعرنا السوداني،ذا طابع، محلي ويمكن القول أن الحركة الأدبية السودانية الحديثة، ما زالت في بدايتها.
- ما رأيك في الحملات التي أثيرت ضد لويس عوض؟
الفيتوري: لويس عوض مثقف وحسن النية، وهو إنسان قد يخطئ، ولكنه على أي حال لا يقصد بالنقد إلا النقد، وهو رجل ذكي، فليس من المعقول أن يقصد الإساءة، وهو يرى العيون متربصة ترقبه.
- ما رأيك في الأسطورة واستعمالها في الشعر؟
الفيتوري: أنا لا تعجبي الأسطورة، ولكن إذا استعملت بصدق، فقد تكون حسنة لأن كثيراً من الشعراء بستعمل الأسطورة ليقال إنه مثقف، فتظهر ناتئة قلقلة، كأحد الشعراء الذي نشر ديواناً،بعنوان: “إيقاع الأجراس الصدئة” (يقصد: بدر توفيق)، فهل هناك صوت قوي للجرس الصدئ. بطبيعة الحال، لا. أما إذا استعملها الشاعر على السليقة وبصدق وذكاء، فمستحسنة.
- من يعجبك من شعراء الجمهورية العربية المتحدة، وهل هم في الطليعة في الشعر الحديث؟
الفيتوري: في الحقيقة أن شعراء الجمهورية العربية المتحدة، ليسوا بأرقى من غيرهم في البلاد العربية، ولكن شهرتهم، جاءت بسبب وجودهم في الجمهورية المتحدة، وقد يفوقهم كثير من شعراء العربية، ولكن هناك نخبة طيبة، منهم: محمود حسن إسماعيل – صلاح عبدالصبور – أحمد حجازي – فتوح أحمد – كمال عمار – جليلة رضا.
- وشعراء الشام؟
الفيتوري: يعجبني من لبنان: سعيد عقل الشاعر الرمزي، ومن سوريا شوقي بغدادي ونزار قباني وأدونيس وعمر أبو ريشة.
_______________
- مجلة الأفق الجديد، القدس، فلسطين، العدد السادس، عام 1965.