بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم
تحية طيبة للجميع منظمين ومشاركين في هذا الحفل البهيج المنظم لتوزيع جوائز أول مسابقة شعرية لتكريم المناضل الرمز سيدي محمد سميدع.
لقد قبلت، منتشيا ومترددا في الآن ذاته، بإلحاح من أخي وزميلي الشاعر المختار السالم تقديمَ هذا العرض الموجز عن شخصية وطنية رمزية.
أما النشوة فباعثها أن سميدع كان لي ولأمثالي من شباب الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي قدوة وإسوة، وأما التردد فمرده خشيتي أن لا أوفي المرحوم حقه.
والواقع أنه لم تُتَحْ لي فرصة لقائه إلا مرة واحدة، وهكذا أجدني اليوم مضطرا للرجوع إلى ذكريات قديمة، ربما تتأثر بالنسيان وتقادم العهد.
وقد كنت محظوظا حين توفرت لي شهاداتٌ شفهية ومكتوبة من أقرب رفاقه في الدراسة والنضال، مثل: الدكتور يحيى ولد الحسن، والأستاذ محمدن ولد إشدو.
وأرجو أن لا أخيب آمالكم في التعرف على جوانب مهمة من حياة هذا الرمز الكبير.
*****
في الميثولوجيا الموريتانية أن الإنسان قد يكون محظوظا، فيكون له نصيب من معنى اسمه، وقد يكون منحوسا فلا ينال نَدًى من ذلك المعنى.
وبِغَضِّ النظر عن صحة هذه الأسطورة أو عدم صحتها؛ فإن المؤكد أنها تحققت على الأقل في أيقونة النضال الموريتاني لأجل ترسيخ الهوية، ونشر قيم العدل والحرية والمساواة، بين كل الفئات الاجتماعية، سيدي محمد سَميدع.
من معاني "السَّميدع" - بفتح السين - في معاجم اللغة: السَّيِّد الكريم السَّخِيّ، والرئيس، والشُّجَاعُ، والخفيفُ السريعُ في حوائجِه.
ومنه قول أبي طالب في لاميته المشهورة:
بِكَفِّ امْرِئٍ مِثْلِ الشِّهَابِ سَمَيْدَعٍ
أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ بَاسِلِ
وهي صفات لم يجد أحد الرفاق الذين نَعَوْهُ بُدًّا من الاعتراف باتِّصافه بها، حيث قال:
سيدي محمد گـــال مات
غير اص موت أروع بطل
ألا مات امل لـين احيات
روح الكـــــــــفاح افكل اطفل
ألا ماتت صدراي خلات
أُورگــــها وادفـــاها والــظل
إن كل شيء في حياة سميدع يدعو للعجب، فعمره النضالي القصير، الذي لم يتجاوز ست سنوات، حوّله إلى أيقونة للنضال الوطني من غير منافس، وكل القضايا التي ناضل من أجلها تحولت إلى علامات فارقة في التاريخ السياسي والثقافي لموريتانيا.
لقد رأيت أن أُقَسِّمَ هذا العرض - عن أيقونة النضال الخالدة سيدي محمد سميدع - إلى المحاور التالية: سميدع الشاب، سميدع الطالب، سميدع المناضل، سميدع الإنسان، سميدع الرمز، وهو تقسيم اقتضته الدواعي المنهجية لا غير، وإلا فإنه يصعب فصل سميدع الطالب عن سميدع المناضل مثلا، فلا يمكن أن نعرف أيهما سبق في حياة سميدع: النضال أم الدراسة.
سميدع الشاب:
ولد سيدي محمد سميدع - على الأرجح - سنة 1946، في وسط أسري كريم؛ فوالده هو مفتش التعليم العربي الأستاذ محمد الأمين ولد سميدع، أحد رواد النهضة العربية في موريتانيا، وأحد أعضاء الكوكبة التي وجه إليها الرئيس المختار ولد داداه رسالة يطلب فيها منهم الاضطلاع بمهمة إصدار أول جريدة عربية في موريتانيا هي "موريتانيا الجديدة".
أما والدته فهي السيدة عيشه بنت اخليل؛ أخت الإداري الكبير ورجل الدولة السيد محمد ولد اخليل - حفظه الله تعالى - الذي شغل في فترة تأسيس موريتانيا مناصب إدارية عدة من بينها منصب مدير ديوان الرئيس المختار ولد داداه، ومدير الأمن الوطني.
ولم تَخْفَ على أهله والمحيطين به مخايل النبوغ التي ظهرت عليه في وقت مبكر.
كما لم يَخْفَ على أحدٍ ما يتحلَّى به الشاب من عنفوان وتحمس واندفاع لخدمة الوطن، فكأنه يتمثل أبيات الشاعر الأردني إبراهيم النّاعوري:
شبابي إذا كنت لا أستطيع
أحقق فيه مُنَى أمتي
وإن كنت لا أستهين الصعاب
لأسموَ فيه إلى القمة
فلا كان هذا الشباب العقيم
ولا كان زهوي ولا قوتي
ولا كنت يوما حليف الحياة
إذا كنتُ أحيا بلا عزة
سميدع الطالب:
بدأ المرحوم "سميدع" دراسته الإعدادية بمدينة روصو في السنة الدراسية 1958 – 1959، وحسب شهادة رفيقه في الدراسة والنضال الدكتور يحيى ولد محمد عبد الله ولد الحسن "كان سميدع تلميذا فائق الذكاء والاجتهاد في آن واحد، وكان يتصدر الصف دائما، فقد ظل يحظى بالدرجة الأولى أو الثانية في الامتحانات.
كما كان يتقن المواد الأدبية و العلمية على حد سواء.
كان منضبطا، يحترم النظام المدرسي، لكنه لا يقبل أي شكل من أشكال الظلم، سواء كان ذلك من طرف الإدارة أو المدرسين أو زملائه التلامذة.
وأتذكر - يقول يحيى - أنه في الصف الأول الثانوي بانواكشوط (1963) حصل تغير في وعيه وأسلوبه، حيث بدأ يجادل الأساتذة الفرنسيين، خصوصا في حصص الآداب والتاريخ والجغرافيا، حيث كان يرفض المفاهيم والأفكار والأحكام المسبقة التي تنتقص من قيمة الشعوب المضطهدة، وخصوصا الشعوب العربية والإسلامية.
واشتدت خلافاته مع الأساتذة الفرنسيين عندما بدأ يكتب عبارة البسملة في بداية جميع واجباته، وأدى ذلك إلى مشادات قوية في كثير من الأحيان.
وكان لا يتكلم باللغة الفرنسية إلا عند الضرورة؛ أي في حصص الدراسة.
خلال السنة الدراسية 1964 – 1965 قام الرئيس المؤسس المختار ولد داداه رحمه الله بزيارة تفقدية لثانوية نواكشوط، وقبل أن يخرج من الحجرة التي كان فيها المرحوم سَميدع ناداه بصوت عال قائلا: "وَجَّهْنَا لك الرسول رَسْمِينَّا لغتنا"، ولم يبد الرئيس أي انفعال أمام هذه المناشدة القوية.
ويبدو أن تلك المناشدة لم تلامس وجدان الرئيس المختار فحسب، بل طبعت وحددت أيضا تاريخ موريتانيا المعاصر برمته.
وكانت أولى خطواته السياسية مع طاقم جريدة "موريتانيا الفتاة" خلال عطلة السنة الدراسية 63 - 64 حيث التحق بها محررا وطابعا وموزعا.
وفي شهري يناير وفبراير سنة 1966 كان سميدع أحد قادة طلاب الثانوية الوطنية الذين رفعوا لواء الدفاع عن اللغة العربية وقادوا إضراب 9 فبراير احتجاجا على بيان الـ19 وتحريض السفارة الفرنسية ضد العربية.
وقد اعتقل سميدع ونفي إلى معتقل واحة "انبيكه" مع عشرات المثقفين والتلاميذ الذين اعتُبروا مسؤولين عن تلك الأحداث الأليمة التي كان وراءها صراع الأجنحة داخل السلطة ومحاولة كل منها القضاء على غريمه.
ولما أطلق سراحه، ضمن الطلاب وبعض الشخصيات، أصدر سميدع عددا أبيض من "موريتانيا الفتاة" ندد فيه باعتقال إدارتها، ثم انخرط في العمل الوطني والقومي باسم حركة القوميين العرب.
وفي سوريا أسس سميدع مع بعض أصدقائه - بعد أن أقاموا أياما في الحي اللاتيني المحرر في ضيافة لجنة التسيير الذاتي المنبثقة عن ثورة 68 - وكوكبة من الطلاب الوطنيين، الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا بقيادة الطالب المحجوب بن بيه (الدكتور المحجوب) في النصف الأخير من سنة 1968، وهو الاتحاد الذي وحد صف الطلاب والمتدربين الموريتانيين، وأبلى بلاء حسنا في النضال ضد الاستعمار والصهيونية والعبودية والعنصرية، ومد الحركة الوطنية وحزب الكادحين بعشرات الأطر والقادة الشجعان.
سميدع المناضل:
وفي سنة 1968 التحق سميدع بجامعة دكار عن طريق المسابقة، ومنها أشرف على تنظيم العمل الطلابي وأصدر نشرة "الكفاح".
ونشرة "الكفاح" جريدة كانت تصدر عن الطلاب الموريتانيين في دكار، وكان سميدع العنصر الأساسي في إصدارها وتوزيعها داخل موريتانيا، وكان تأثيره فيها لصالح مبادئ مكافحة الاستعمار والظلم، وتوحيد الشعب لذلك الغرض.
كما قاد في دكار، وفي موريتانيا، مع زملائه القوميين حركة الاحتجاج الواسعة على مذبحة عمال ازويرات، التي كانت - إلى جانب هزيمة 67 - نقطة تحول في فكر حركة القوميين العرب في موريتانيا، وانطلاقة شرارة الحركة الوطنية الديمقراطية، التي ظل يقودها إلى أن أقعده المرض.
في دكار اندمج سميدع في النقابة التي تضم الطلاب العرب فقط، حيث كان الطلاب الموريتانيون منتظمين في اتحادين على أساس قومي ضيق، إلا أنه بدأ فورا يفكر في التغلب على تلك الوضعية.
وبإزاء المشاركة في العمل الطلابي كانت له روابط وثيقة وغير معلنة بمناضلين موجودين داخل البلد، وأكثرهم ينتمي لنقابة المعلمين العرب.
في سنة 1968حدث إضراب طلابي كبير في دكار، بالتزامن مع حركة احتجاجية طلابية وشبابية واسعة اجتاحت العديد من دول العالم، خصوصا أوروبا الغربية وأمريكا، وتزامنت عودة الطلاب الموريتانيين من دكار آنذاك مع أحداث ازويرات التي راح ضحيتها عدد من العمال.
ولعب المرحوم سميدع دورا مركزيا ومباشرا في حركة التضامن مع عمال ازويرات والربط بينها وبين الحركة الطلابية.
في سنتي 1968 و1969 انصب اهتمامه نحو البحث عن طرق توحيد الشعب الموريتاني بجميع مكوناته وطوائفه ضد ما كان يصفه بالاستعمار الجديد والاضطهاد الداخلي من طرف الطبقات المهيمنة.
ولما نقل إلى الشمال وأُخْضِعَ لإقامة جبرية هناك اندمج بسرعة في عمال شركة "ميفرما"، وبدأ التنسيق مع قيادة إضرابهم المتمثلة في السيدين أحمد محمود ولد أعمر رحمه الله، وينج ولد أحمد شللّ، شيخ ألاك في فترة الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي.
كما ساهم في حركة التضامن مع مصر وسوريا بعد حرب حزيران 1967، تلك الحركة التي أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا وأمريكا وبريطانيا وجلاء السفارة الأمريكية من نواكشوط، وخلقت تيارا شعبيا واسعا، تم التعبير عنه في التبرع بسخاء للمجهود الحربي، وفي جولة الرئيس المختار ولد داداه عبر إفريقيا حتى قطعت جميع علاقاتها مع إسرائيل.
وفي منفاه إلى أطار سنة 1967 بعث له رفيقه محمدن ولد اشدو قصيدة بعنوان: "رسالة إلى رفيق"، يقول فيها:
يا رفيقي تحية من فؤادي
بدمائي أزفها لا مِدادي
تبعث العزم والطموح وتُذْكي
جذوة الحقد في صميم الفؤاد
مقتضاها أني على العهد دوما
ما حيينا إلى بلوغ المراد
إلى أن يقول:
ليس في القتل والتشرد عيب
إنما العيب أن نخون المبادي
وكان سميدع - رحمه الله - أحد القادة الستة الذين شاركوا في مؤتمر حركة القوميين العرب في قرية "توكوماجي" بكوركول، وهم: سيدي محمد سميدع، أحمدو ولد عبد القادر، بدن ولد عابدين، محمد المصطفى ولد بدر الدين، عينينه ولد أحمد الهادي، ومحمدن ولد اشدو، وهو المؤتمر الذي تم فيه العدول عن الفكر القومي الضيق واعتناق الفكر الوطني الديمقراطي، الذي ينبذ القومية العنصرية، ويؤمن بالشعب الموريتاني ككل، ويكافح الاستعمار والصهيونية والرجعية.
ورغم أن ذلك التحول لم يتم بصورة نهائية إلا بعد ذلك بسنة في مؤتمر كيفه، إلا أن مؤتمر توكوماجي مثّل منعطفا تاريخيا تمهيديا لا غنى عنه في ذلك المجال.
وإذا كان حزب الكادحين وجريدة "صيحة المظلوم" لم يريا النور إلا بعد سنتين ونيف من وفاة سميدع خلافا لما يدعيه المدَّعون، فإن فكر سميدع وإقدامه وشجاعته كانت البوصلة التي يهتدي بها مناضلو ذلك الحزب وتلك الحركة.
وقد تجلى ذلك في المراثي التي قيلت في سميدع، وفي الأغاني التي تمجده، ومنها الكاف التالي:
سميدع يا المحبوب
ما مت أُلاَ بَرْتَيْتْ
أفكارك في الشعوب
تُنَاقش كل أُقَيْتْ
وكذا في نعي "صيحة المظلوم" له في ذكراه، وفي الكتاب الذي أصدرته عنه يومئذ؛ والذي سقط مع أرشيف الحركة والحزب في أيدٍ أخرى.
سميدع الإنسان:
لا أحد يُحْسِنُ الحديث عن هذا الجانب من كاتب مبدع، أو شاعر مرهف الإحساس، أو رفيق درب وزميل دراسة ملاطف، ولذا فقد اخترت شهادة طائفة مختارة بعناية: الكاتب والمناضل أحمد سالم ولد المختار (شدّاد)، الذي التقاه أول مرة في سفر ولم يكن يعرفه، وشاعران من جيلين مختلفين هما أحمدُّ ولد عبد القادر والشيخ ولد بلعمش، وصديق المرحوم ورفيق دربه يحيى ولد الحسن.
كتب المناضل والكاتب أحمد سالم ولد المختار (شداد) في كتابه "قبل أن يغمر النسيان": "من ضمن المسافرين شاب بيظاني، لا يمر دون شد الانتباه إليه رغم قِصَرِهِ، كان يلبس فضفاضة من قماش "البركال" الأبيض الخفيف، كان لونه فاتحا، وكان يضع قبعة على رأسه إفريقية مصنوعة من ورق النباتات الأسمر. كانت القبعة تغطي جزءا كبيرا من وجهه الصغير. كان يُكَلِّمُ كل شخص في زاويته، يناقش هنا وهناك. كان يغضبني، كنت قلقا شيئا ما من بداية دوار، كنت مقتنعا أن الشاب يروج لأفكار عنصرية غير إنسانية وظلامية. لم يتوقف عن إلقاء نظرة علي، يبدو من الجلي أنه مهتم بي، كنت أقول في نفسي إنني سأخيب أمله إن قرر التواصل معي، حضّرت ردودي على هرائه المحتمل. اقترب مني وسلم علي بأدب، انطلق الاشتباك فورا، بعد أول مشادة تبين أنني أسأت فهمه، وبكل تأدب أوضح لي فلسفته مختتما بأنه متفق تماما مع أسس تفكيري. من جانبي أدركت أنني أكتشف لأول مرة على الكوكب الأرضي شخصا يتقاسم معي نفس التصور حول المساواة بين البشر. قدم لي نفسه قائلا: اسمي سيدي محمد ولد سميدع، وأنا طالب في السنة الثانية بجامعة دكار، قدمت له نفسي. كانت تفصلنا 7 أو 8 سنوات من الدراسة بالرغم من أنه لا يكبرني كثيرا، كان أبوه معلما في مدينة أطار، علمت بعد فترة أنه كان شهيرا في الأوساط السياسية، لقد تآلفنا.
أجرينا توقفا قصيرا في قرية تكند، على بعد كيلومترات قليلة من مكان تكند الجديدة الحالية. سارع سميدع إلى شراء كمية كبيرة من اللحم المشوي، واستدعى كل الركاب وطاقم الشاحنة إلى الأكل، رافضا أن يساهم أي أحد في دفع الثمن. وبدأ النقاش حول المائدة...".
وفي مرثية بعنوان "لا نرهب الموت"؛ لم يجد شاعر موريتانيا الكبير أحمدُّ ولد عبد القادر في شمائل سميدع وصفاته وصفًا أَجْدَرَ بالبكاء عليه من صفة "الإنسان":
يحز في النفس آلاما وأحزانا
موت الصديق إذا ما كان إنسانا
وكان حرا نقي العزم متخذا
على مبادئه بالبذل برهانا
يجود بالنفس مرتاحا ومغتبطا
ويوسع الذات عند الجود نكرانا
براءة الطفل تحنو فوق بسمته
إن كان يألف إخوانا وخلانا
وصولة المارد الجبار عادته
إن ثار يفضح تدليسا وطغيانا
أما شاعر القضايا العادلة وصوت المستضعفين في الأرض الشيخ ولد بلعمش رحمه الله فقد أرهقه الواقع البائس، الذي استُضعفتْ فيه الطبقات المسحوقة، وفَقَدَ الفقراء النصير، وغاب المناضل الذي يبث الوعي في القلوب والضمائر، فصار ينادي سميدع ملتاعا:
أجبني يا سميدع والليالي
لماما تخرق العادات خرقا
لقد رمدت عيون الشمس فينا
فسيقت بعدك الطبقات سوقا
فلا الفقراء يسمعهم زعيم
وإن كانوا على أذنيه طوقا
أجبني يا سميدع ها نسينا
دروس الوعي أم هَمَلاً سنبقى؟
سقيت أخا البداوة كأس وعي
ألا كأسا تجود بها فنسقى
جموع الجائعات بكل درب
وثوب العز في الطرقات ملقى
لقد عدنا قبائلَ يا رفيقي
نحارب بعضنا تحتا وفوقا
أما زميله في الدراسة ورفيقه في درب النضال يحيى ولد الحسن فيذكر أنه "تميز بقوة الإرادة والشجاعة، وحب الوطن والشعب، والربط الوثيق بين الفكر والممارسة، وبين الكلام والعمل، ونكران الذات والتشبث بالمبادئ، والبساطة والتواضع، والجدية والروح العملية في جميع مهامه، وعدم الاهتمام بالنقاشات النظرية والسفسطة".
سميدع الرمز:
يعرف الرمز بأنه "العلامة التي تنقل رسالتها بنظرة واحدة دون الحاجة لأية كلمات"، وهو أمر تحقق في اسم "سميدع"، فهو يوحي إلى الأذن التي تسمعه والعين التي تقرأه بمعاني الوطنية، والنضال، والكفاح، والوقوف مع المستضعفين.
وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن سميدع رمز وطني لا يحتاج إلى أي إضافة أو وصف آخر في موريتانيا ليبعث في النفس ما يبعثه اسم "تشي غيفارا" في نفوس ملايين الناس في أنحاء العالم.
وأكبر دليل على ذلك أن ذكراه ظلت حية حتى في وجدان الشعراء الذين ولدوا بعد وفاته، فهذا الشاعر الشيخ ولد بلعمش رحمه الله تعالى يصر على رثائه بعد مرور أكثر من أربعين سنة على وفاته:
سميدع مرت الأيام برقا
فكنت حديثها غربا وشرقا
كأنك من سجوف الغيب طيف
يبلغنا رسالته ويرقى
قرأت على النضال فكان فتحا
وناديت على الجموع فكان صدقا
فماذا لو لبثت بنا قليلا
تُفَتِّحُ أعينا وتدل حمقى
وفاته:
أصيب المرحوم سميدع سنة 1969 بمرض لم يُشَخَّصْ بصورة دقيقة، وأجريت له عملية في مستشفى نواكشوط لم تُؤَدِّ إلى تحسّنٍ في وضعه.
وصل إلى دكار مساء 6 يناير 1970، وتوفي في مستشفى Principal يوم 7 يناير 1970 في منتصف النهار، ثم دفن في المقبرة الكبرى القريبة من حي "البطوار".
حضر مراسيم دفنه رفيقاه في الدراسة والنضال يحيى ولد الحسن والطالب محمد ولد لمرابط.
ومن أجود مراثيه مرثية رفيقه في درب النضال الأستاذ أحمدُّ ولد عبد القادر:
قل للطلائع إذ ترثي سميدعَها
والرزء أثقل من أجبال تاكانا
لا تمنحوه رثاء لا يلائمه
دمعا وخوفا وإشفاقا وإذعانا
قد كان يأمل والتصميم شيمته
أن تصبحوا لبناء المجد عقبانا
إلى أن يقول:
وجذوة النار تخلو من حرارتها
من بعدما تملأ الوديان نيرانا
خلاصة القول أن الشاب سيدي محمد سميدع نشأ وترعرع في وسط هيأه للإقبال على تحصيل العلوم والمعارف، والاهتمام بشأن وطنه وشعبه، وكان عند حسن الظن به؛ إذ تفوق في الدراسة، وقاد الحركات النضالية، لينتهي به المطاف رمزا خالدا، راسخا في ذاكرة الشباب الموريتاني، الذي يتوق إلى الحرية والمساواة والتقدم والرقي والازدهار.
رحم الله سميدع الرمز.