في مُسْتَهَلِ خمسينات القرن الماضي نزل شاب علوي أطار مدینة الأشراف ومثابة التجار والساسة والأدباء.
لم يكن الفتى يفكر يومها أن الأقدار ساقته ليكتب اسمه بالعريض في تاريخ هذه المدينة وليؤسس فيها لبنيان قوي شُيِّدَ بالعلم ومكارم الأخلاق . اعتاد حي الفتى الخاص الانتجاع في الفضاء الفاصل ما بين تامشكط وبومديد وخصوصا اتويميرة الحمرة ، وربما نزل أهل بيته أيام الگيطنة بتجكجة ففي تلك الأرض عاش الفتى صباه ومراهقته و فيها أجاد ،حفظ القرآن ودرس علومه، وقرأ متونا فقهية ولغوية عديدة ، إلى أن عَصَفت به هُوجُ المَطَامِح المُتّقِدَة والأماني المجنحة وأنزلته في الشمال البعيد في مدينة اگليميم سوق الإبل والقطائف والشاي والأواني... تردد منها وبعض أشقائه بتجارتهم على مدن الشمال خصوصا أطار التي أحبها وأحبته وفيها "ألقى عصاه واستقر به النوى".
بما أتاحته عاصمة دائرة آدرار (cercel d'adrar ) يومها من فُرص وما فتحته من أبواب للوافدين تشكّلت بالمدينة طبقة برجوازية من قبائل وأعراق مختلفة 《أهِلْ أطار الْْخِطَارْ》، فتحت محلات تجارية بالسوق المركزي وسيّرت تجارتها شمالا وجنوبا وشكَّلت نَوادِِ وحِلَقِِ أثْرَتِ الساحة وحَجَّهَا أصحاب الحوائج من شعراء وفنانين .
في اللحظات الأخيرة من يوم مَغِيبِ نجم هذا الجيل نزل محفوظ ولد الجيد المدينة وقرر أن يسكنها على غير عادة أبناء عَمِّهِ عنوان التَّمَدُنِ في هذه البلاد كما ذكر الشيخ محمد المامي في كتابه البادية :[وليس في قطرنا غيرهم مدنيون ] يعني إيدوعلِ.
حين نزل ولد الجيد آطار كانت الأسفار قد صقلت ذهنه وكانت التجارب حككته، وفوق ذلك كان فقيها متمكنا وقارئا حافظا مجيدا ،حاد الذكاء طويل القامة قوي البنية والحضور.
اختار من المدينة وسطها ومن الوسط أعلاه فبنى بيته ومسجده على ظهر تلة غير بعيدة من السوق
ونزل إلى الناس وسعى في مصالحهم وجلس لتدريسهم وفضِّ خٌصُومَاتهم وتوثيق معاملاتهم وقسم ترائكم وعقد زيجاتهم ...
لم يمض إلا وقت قصير حتى صارت له الكلمة الفصل في المشكلات فإليه تتوجه الفتوى وهو صاحب الحكم النافذ والكلمة المطاعة والوجاهة التي لا ترد ،أهَلَه لذلك علمه وتواضعه وورعه وحب الناس له عامة وخاصة .
تطلّع محفوظ رحمه الله بأدوار اجتماعية وسياسية بارزة بالمدينة خاضها جميعا بشرف وقوة وعدل.
أدْرَكْتُهُ رحمه الله وقد انعقد حوله مجلس دائم لا ينفك إلا وقت الزوال والمبيت يَرِدُهُ الأعيان والوجهاء ،يُثَار فيه لطيف الحكايات ومُؤنسها وربما غَشِيَهُ صاحب مظلمة أو حاجة أو طالب علم [لَاهِي اسگّمْ كِتْبَه والل يَحْفَظْهَ] .
مَنَّ الله عَلَيَّ أن خصني بالحج معه في موسم 2012 سنةََ قبل وفاته رحمه الله فرأيت منه من النسك والعبادة والتضرع ما بهرني ،ثم إني رويت عنه أيام انتظارنا بمكة قبل الرجوع من دُرَرِ الأمالي الكثير .
حين كنت أزوره معايدا عندما اشتد به المرض واحتجز بعيادة الشفاء كان يُبَادرني متحمسا بالسؤال عن أخبار شقيقي الشيخ رحمهما الله الذي كان يخوض حينها مسابقة أمير الشعراء في تجديف عجيب بالتفكير عكس ما يمليه ما حولنا من الحُقَن والأَسِرَّةِ.
في 28 - 05 -2013 أسلم العلامة محفوظ ولد الجيد الروح إلى بارئها بانواكشوط ودفن بمدفن أولاد ميجه بآطار في لفتة وفاء نادرة لهذه المدينة ، تاركا وراءه تاريخا حافلا بالمكارم والفتوة والذكر الحسن...
غفر الله له ورفع درجته وبارك في أهل بيته إلى يوم الدين