في الذكرى التاسعة لوفاته
صاحبُ «الرحيل» مضى.. تاركاً «فتنة الأثر»!
-------------------------------------------------
تتوالى مواكب الراحلين من نجوم الأدب والثقافة والفكر، تاركةً دنيانا بكل ما فيها من هشاشة وفناء وعبث، إلى دار الأبدية والخلود. ومع أفول عامنا هذا الذي أزفت نهايتُه، انضم الشاعرُ والناقد الدكتور محمد ولد عبدي إلى كوكبة الكبار المأسوف على رحيلهم، فقد انتقل إلى رحمة الله تعالى أول أمس (الأحد) في أبوظبي، المدينة التي منحها نحو نصف عمره، وفيها أنجز أهم أعماله الإبداعية والنقدية، كما عرفته فضاءاتُها الثقافية شاعراً من طراز المبدعين الكبار، وناقداً حاذقا متمكناً من أدوات منهجه إلى أبعد حد.
شارك ولد عبدي مع عدد من أصدقائه المبدعين الإماراتيين والعرب الآخرين في الحياة الثقافية الزاهرة للإمارات، وأثروا فضاءاتها الجميلة لا سيما في أبوظبي، منذ أن حل بها قبل نحو ربع قرن من الآن. وفي هذه المنتديات ألقى من روائع شعره الذي اندرج على الدوام في مدارات الحداثة بصيغها الأكثر رصانةً وعمقاً وتجذراً في التقليد، كما علّق وقدّم إضاءات في منتهى القوة والأقناع حول نصوص غيره. تميز ولد عبدي بقوة الصياغة الشعرية وبنسق إيقاعه المستمد من وشائج الافتتان والوله التي ربطته بتراث الأدب العربي، إذ كان بالنسبة له المنهلَ العذب الغزير الذي لا ينضب ولا يكف عن مده بالصور والرموز والإحالات والأخيلة في نصوصه الإبداعية واستدلالاته النقدية. وفي نطاق هذه العلاقة الخاصة، وما طبعها من وعي نقدي حاد ودقيق وفطن، كان الجاحظ معشوقَه في عالم السرد، والمتنبي مثله الأعلى في تكوين الجمل والأخيلة الشعرية.
وفي أبوظبي أيضاً كَتبَ ولد عبدي دواوينَه الشعرية، لاسيما عمدتها ديوان «الرحيل»، ومعه ثلاثة دواوين مرقونة.. أمتع جمهورَ الثقافة والأدب بالكثير من قصائدها شديدة الإحكام في صياغاتها الشعرية ومضامينها الأدبية والفلسفية.
كان ولد عبدي ناقداً متمرساً ومعلّقاً بارعاً، وكثيراً ما أشرف على الأماسي والمؤتمرات الأدبية والندوات الفكرية وأدار دفتَها بكفاءة تامة، فأبهر المتابعين بقدرته على اقتناص جواهر الأفكار الفلسفية والالتماعات الأدبية في ثنايا الخطابات والنصوص. وكان أمراً طبيعياً أن يفضي به مثل هذا الحضور البهي وذلك التفاعل الخلاق إلى تسليط الضوء على بعض النصوص والنتاجات الإبداعية الإماراتية، حيث أصدر دراسةً مميزةً بعنوان «تفكيكات: مقاربات نقدية في نصوص إماراتية»، كما قدّم لأعمال إماراتية منها أحد الدواوين الشعرية للمبدع حبيب الصايغ.
بيد أن أغلب أعمال النقد التطبيقي لولد عبدي إنما انصبت بالأساس على المدونة الشعرية الموريتانية بعصورها المختلفة، حيث حاول إعادة النظر في «ما بعد المليون شاعر: مدخل لقراءة الشعر الموريتاني المعاصر»، كما درس «السياق والأنساق في الثقافة الموريتانية المعاصرة: الشعر نموذجاً». وفي هذا الكتاب الأخير قدّم مقاربةً جديدة وأصيلة، تؤاخي بين مستجدات النقد الثقافي (كما طبّق بعض استراتيجياتها عبدالله الغذامي في سياق اجتماعي وثقافي مشابه تقريباً)، وبين مكتسبات النظرية الأدبية الحديثة بتلويناتها الفلسفية؛ البنيوية والتأويلية والتفكيكية. وكما قام بتحليل السياق التاريخي والاجتماعي باختلاف تجلياته، فقد قدّم تحليلا نقدياً للخطاب الشعري كاشفاً تطورَه ضمن ثلاثة أنساق: النسق التقليدي، والنسق التجديدي، ثم النسق الحداثي.
وإلى ذلك، فقد اتسع إطار اهتمام الراحل محمد ولد عبدي نحو آفاق أخرى، ليشمل أدب الرحلة وصور الأمكنة والمجتمعات والحقب في كتابات الرحالة، حيث ألّف كتاب «فتنة الأثر: على خطى ابن بطوطة في الأناضول». وكان قد حقق قبل ذلك كتاب «موانح الأنس في رحلتي إلى القدس»، لمؤلفه أبي عبدالله الكمليلي.
وهذا علاوة على نصوص إبداعية وأعمال بحثية متناثرة وغير منشورة، ربما ضاعت بسبب انشغالات الكاتب وانخراطه طوال سني حياته في أعمال المروءات والسعي لمساعدة أبناء بلده، مما جعله «ضيفاً» في بيته الذي غالباً ما تحول إلى مضافة مفتوحة للأقارب والأصدقاء والمعارف وغيرهم. وفي جو مثل هذا، كانت فسحة الوقت للكتابة والبحث قليلة أمام ولد عبدي، حتى أنه أخبرني ذات مرة بأن فرصته الوحيدة للبحث والقراءة والتأليف فتراتٌ قصيرة ينتزعها انتزاعاً أثناء عمله المكتبي اليومي الطويل. ومع ذلك فقد ترك لنا وللمكتبة العربية أعمالاً ثمينة؛ شعراً وبحثاً ونقداً وتحقيقاً.
رحم الله الدكتور محمد ولد عبدي وأثابه الثوابَ الجزيلَ على ما أعطى وقدّم للثقافة والفكر، وللناس جميعاً، وعلى ما كان له من صفات الخُلق الكريم والكرم الصادق الأصيل.
محمد المنى
«الاتحاد»/الثلاثاء/30/ديسمبر/2014