لا يخفي السنغاليون في أي وقت اعتدادهم بأن بلدهم استثناء أفريقي للديمقراطية في فضاء يموج بالانقلابات، وبشيء من الاعتزاز "المتعالي" يعيدون ذلك إلى وعي سياسييهم ونخبتهم وبعد جيشهم عن السياسة.
غير أن السنغاليين اليوم يخشون أن تنسف الأسابيع الأخيرة من حكم رئيسهم ماكي سال، ما بنته السنغال خلال 63 سنة، أو 60 على الأقل منذ أول تأجيل للانتخابات الرئاسية في تاريخ البلاد سنة 1963 على عهد الرئيس الأسبق ليوبولد سيدار سنيغور، ومع أن السنغاليين لا يرغبون في تثنية ذلك التأخير، فإن رياح السياسة في دكار تبدو أعتى من أمواج المحيط الأطلسي الذي تغفو "باريس الصغيرة" منذ عقود على صخور ضفافه.
لم تعش السنغال طيلة السنوات الثلاث المنصرمة حالة تقارب وتهدئة سياسية بين أطرافها، بل كانت لغة المحاكمات والتظاهر العنيف هي اللسان الأكثر استخداما في تداوليات السياسة في هذا البلد، الذي يخطو بثقة نحو آفاق كبيرة من التنمية، وإذا كان الرئيس الحالي ماكي سال قد استطاع -كما يقول أنصاره- إحداث نقلة نوعية في التنمية في بلاده، فإنه الآن يضعها أيضا -من خلال تأجيل الانتخابات- على صفيح ملتهب.
آخر آمال الولاية الثالثة
تتهم القوى المعارضة الرئيس ماكي سال بالتشبث بالولاية الرئاسية الثالثة، أو على الأقل محاولة التحكم في المشهد الانتخابي، بما يضمن له مستوى من التأثير في المتغير الذي سينتج عن مغادرته للسلطة، ولأن السلطة حلوة براقة، فقد بات هذا السياسي الأفريقي -وفق معارضيه- أحد أكثر المتشبثين بحكم يتشتت بحكم القانون والدستور من بين يديه.
وبإجازة البرلمان السنغالي مقترحا بتأجيل الانتخابات إلى نهاية العام، فإن الرئيس سال الذي انتخب في العام 2012، وأعيد انتخابه في 2019، سوف يستفيد من نحو 10 أشهر على الأقل، في تمديد هو الأول من نوعه منذ 6 عقود.
ودون شك ستمكن هذه الأشهر العشرة الرئيس سال من إحداث ما يمكنه من تغيير سياسي وإداري، ومن إضفاء البصمات التي يريد على مشهد الرئاسة من بعده، إلا أن هذه الأشهر -وفقا لبعض المراقبين- لن تكون "ختام مسك" على ما يبدو بالنسبة للرئيس الذي تكالبت عليه صيحات الاحتجاج من الداخل والاستياء والغضب من الخارج.
قرار الرئيس السنغالي ماكي سال بتأجيل الانتخابات أدخل البلاد في مأزق سياسي (الجزيرة)
غضب عارم بجزيرة الديمقراطية الأفريقية
اشتعلت المدن السنغالية غضبا ومظاهرات قوية، وتلقتها السلطات الأمنية بالأعيرة المسيلة للدموع والهراوات المدمية، في مشهد لم يعد غريبا منذ سنوات على دكار وتيس وسان لوي وغيرها من المدن السنغالية العريقة، وهتف المتظاهرون ضد الرئيس سال ووصفوه بالدكتاتور، وهو اللقب نفسه الذي بدأ يتردد على ألسنة سياسيين وقوى معارضة متعددة.
ورغم الغضب الشعبي العارم تجاه هذا التأجيل، فإن التصدع في معسكر الأغلبية كان محدودا، ولم يتجاوز استقالة الوزير الأمين العام للحكومة عبد اللطيف كوليبالي، وهو إعلامي وشقيق أحد القاضين الذين اتخذ الرئيس سال من اتهامهما بالفساد إحدى ذرائع تأجيل الانتخابات.
وتصاعدت حدة الانتقاد للتأجيل، حيث اعتبر المعارض تييرنو الحسن سال أن خطوة الرئيس ترقى إلى "خيانة عظمى بحق الجمهورية"، في حين ذهب السياسي مالك نجاي إلى أن ما حصل "ليس إرجاء للانتخابات بل إلغاء صريح" لها.
ودعا حزب المعارض المستبعد من الانتخابات عثمان سونكو الشعب إلى التصدي "للانقلاب الدستوري"، وهو الموقف نفسه الذي عبرت عنه رابطة الأئمة والدعاة السنغاليين، الذين اعتبروا التأجيل خطرا على السنغال وإدخالا لها في أزمة سياسية ستزيد تعقيد الأمور.
ولمواجهة إقرار البرلمان السنغالي تأجيل الانتخابات، اتفق 12 من مرشحي المعارضة على وضع خلافاتهم السياسية جانبا وتوحيد جهودهم للطعن في قرار التأجيل.
قلق دولي واستياء الأصدقاء
لم تخف دول ومنظمات صديقة للسنغال استياءها من تأجيل الانتخابات الرئاسية في هذا البلد الذي ظل يحصد طيلة عقود، كثيرا من الإشادات ورسائل التقدير والتأثير في الرهانات واستقطاب الأقطاب الدولية.
فخلال العقود المنصرمة، استطاع "الجو الديمقراطي" أن يجلب للسنغال موارد اقتصادية ضخمة وعلاقات دبلوماسية هائلة، حولت "الاستثناء الأفريقي" إلى منتجع ضخم للاستثمارات والعلاقات والرهانات الدولية.
ولم تخف فرنسا التي ترتبط بعلاقات قوية مع الرئيس مكي سال، قلقها تجاه التأجيل، وهو الموقف الذي عبرت عنه بشكل أكثر حدة الولايات المتحدة والمفوضية الأوربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجموعة الإيكواس، وهو ما يعني -وفقا لعدد من المعارضين السنغاليين- أن السنغال بات بلدا أفريقيا يتلقى الملاحظات السلبية بعد عقود من التدليل الغربي والمدائح التي يدبجها "رعاة الديمقراطية" تجاه بلاد سنغور.
المحكمة العليا في العاصمة السنغالية دكار (الجزيرة)
صناعة مشهد ما بعد سال
وجاء إعلان الرئيس السنغالي تأجيل الانتخابات بناء على ذرائع متعددة، منها مطالبة المرشح المستبعد كريم عبد الله واد (نجل الرئيس السابق عبد الله واد) بتأجيل الانتخابات، وذلك لاتهامه اثنين من قضاة المحكمة العليا بالفساد، واعتراضه على استبعاد عدد كبير من الساعين إلى الرئاسة في بلاده، ومن أبرزهم واد نفسه والمعارض الأبرز القابع حاليا في السجن عثمان سونكو.
ورأى بيان صادر عن الحزب الديمقراطي السنغالي (الذي يتزعمه كريم واد) أن "مشروع القانون هذا سيصلح الضرر الذي لحق بأكثر من 40 مرشحا تم استبعادهم من الانتخابات الرئاسية"، ودعا أنصاره إلى "دعم التأجيل بقوة".
وخلافا للمتوقع، وجد سال وأنصاره في مطالبة واد فرصة لا تعوض لالتقاط أنفاس كادت تعصف بها قوة المعارضة، وتزعزع البيت الداخلي للأغلبية، حيث أصبح النظام المستفيد الأول من تأجيل جاءت المطالبة الأولى به من عمق الأغلبية، ليتحول من طلب من معسكر المعارضة إلى رهان عميق للسلطة، خصوصا أن مرشحها للرئاسيات غير مقنع لكل الأغلبية، وينافسه على السلطة مرشحون أقوياء، يملكون شبكة علاقات داخلية وخارجية قوية.
وبينما يتوقع معسكر السلطة أن يكون التأجيل في صالحهم، يمكن أن يمنح التأجيل المعارضة أيضا فرصة لزيادة التحريض على النظام، وتجييش الشارع ضده، إذا لم ينجح الحوار الوطني الذي أكد الرئيس سال أنه سيطلقه خلال فترة وجيزة.
ولكن رجال السلطة ومقربيها واثقون من أنهم سيعبرون هذا المأزق، وسيتجاوزون هذا التحدي، "فليست هذه المرة الأولى التي تغير فيها السنغال رئيسها"، كما أن الضمانات التي تؤمن الفرصة لانتقال سلس للسلطة عبر انتخابات شفافة لا مطعن فيها متوفرة بحسب ما قال الناطق باسم الحكومة السنغالية في مقابلة سابقة مع الجزيرة نت.
ويشير في تلك المقابلة إلى بعض الضمانات التي توفرها البيئة السياسية السنغالية لتنظيم انتخابات ذات مصداقية: "أعتقد أن سمعة السنغال في مجال الانتخابات كافية، لأن التاريخ القريب يخبرنا أننا دولة ديمقراطية، ومنذ عام 1960 تنظم باطّراد انتخابات حرة وشفافة".
ويضيف "منذ 1990-1991 لدينا ثقافة قائمة على وضع ما نسميه قانون الانتخابات التوافقي، وهذا يعني إضافة إلى الوضع القانوني ودور الجمعية الوطنية (البرلمان) أن يحصل أولا وقبل كل شيء نقاش بين الفاعلين السياسيين والمعارضة والحكومة لوضع قواعد توافقية، ولا يمكن للمرء أن يتوقع نقصا في شفافية الانتخابات في بلد فازت فيه المعارضة في المدن الكبيرة خلال الانتخابات المحلية الأخيرة، في حين فازت الحكومة بالانتخابات في الأرياف".
وبين الرهانات المتعددة، يبدو وهج الديمقراطية في تراجع متزايد، والاستثناء الأفريقي -وفق تعبير الناطق باسم الرئاسة السنغالية في مقابلة له مع الجزيرة نت- في خطر قد يعيده إلى القاعدة الأفريقية الأصلية.
زعيم المعارضة السنغالية المسجون عثمان سونكو (الفرنسية)
سيناريوهات
وفقا للآجال المحددة سلفا، كان يفترض إذن أن تجري الانتخابات الرئاسية في 25 فبراير/شباط، على أن تنتهي الولاية الحالية للرئيس ماكي سال في الثاني من أبريل/نيسان القادم، بتسليم السلطة للرئيس الجديد المنتخب، ولكن أزمة التأجيل الحالية أدخلت العملية في تعقيدات شديدة وفتحت المجال أمام عدة سيناريوهات من أبرزها:
الاستجابة لطعون مرشحي المعارضة، وهو ما يعني إلغاء قرار التأجيل الذي صادق عليه البرلمان، ومحاولة وضع المسار الانتخابي من جديد على السكة بعد التعثر الذي حصل في الأيام الماضية، وقاد إلى غضب واسع في الشارع السنغالي.
ويمكن في هذه الحالة إجراء الانتخابات في موعدها المحدد سلفا في 25 من الشهر، أو تحديد موعد انتخابي جديد.
تراجع الرئيس ماكي سال عن قراره، استجابة للضغوط الداخلية والخارجية، وموافقته على إعادة العملية الانتخابية إلى مسارها الذي انحرفت عنه منذ قرار التأجيل.
ورغم أن هذا الخيار مستبعد في الوقت الحالي، فإن تطبيقه عمليا سيثير إشكالات فنية من قبيل الجاهزية لتنظيم انتخابات سبق أن تم إرجاؤها، أو حتى سياسية وقانونية متعلقة بقائمة المرشحين المفترض أن يخوضوا الانتخابات بحكم أن القائمة الأصلية استثنت بعض قادة المعارضة، وهو ما فتح الباب أصلا أمام قرار التأجيل، كما أن قرار التأجيل لم يعد مجرد قرار رئاسي، وإنما صادق عليه البرلمان.
استمرار المسار الانتخابي وفقا للقرارات الحالية التي تثير جدلا قانونيا ودستوريا وسياسيا واسعا في السنغال، ويعني ذلك رفض الطعون القضائية التي قدمتها المعارضة، واستمرار الأزمة السياسية على حالها حتى تنظيم الانتخابات في الموعد المحدد لها نهاية العام، وربما إلى ما هو أبعد من ذلك.
حصول توافق سياسي بين النظام والمعارضة، سواء على الجدول الانتخابي الذي أقره البرلمان، أو على رزنامة توافقية أخرى، خصوصا مع الحديث عن وساطة خارجية تقودها نيجيريا، فضلا عن وجود مرجعيات صوفية لها تأثير كبير على النخبة السياسية وكثيرا ما تتدخل في أوقات الأزمات لسحب فتائل الانفجار، وإعادة الهدوء إلى البلاد.
وقد يشمل الاتفاق ما هو أكثر من مجرد تحديد موعد للانتخابات المؤجلة، إلى صدور عفو رئاسي عن زعيم المعارضة المسجون عثمان سونكو، ومعاونه باسيرو ديوماي فاي المسجون أيضا منذ العام الماضي، وكذلك نشطاء المعارضة الذين زج بهم في السجن خلال اضطرابات مارس/آذار 2021، ويونيو/حزيران 2023.
وبينما تشتد الأزمة وتتعدد السيناريوهات، يكتب السنغال يوميات تدافع سياسي قوي، لكن ما زال في رصيد هذا البلد الكثير من قوة المؤسسات وفورة الشارع، مما يمكنه من امتصاص أزمة ساخنة وملتهبة، وخصوصا أن أصحاب الأحذية الخشنة ما زالوا بعيدين من التعليق على الأحداث.
المصدر : الجزيرة + وكالات