ليس بعد منام المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم مصيبة ولقد أحسن حسان رضي الله عنه عندما قال وما فقد الماضون مثل محمد وما مثله حتى القيامة يفقد ولئن كان الأمر كذلك وهو كذلك فإنه فى كل حقبة من حقب التاريخ وعلى غفلة منه أحيانا تظهر فى الأمة شخصيات علمية أو سياسية أو اجتماعية يكون لغيابها أثر وأي أثر على حياة الأمة وحياة الناس فى قابل أيامهم ..
من أولئك بلا شك شيخنا العلامة حمدا ولد التاه رحمه الله فلعله أبرز شخصية عالمة طبعت المشهد العلمي والثقافي فى بلاد شنقيط موريتانيا لأكثر من نصف قرن من الزمان ..
تعرفت على العلامة عن قرب بداية الألفية وصحبته لأكثر من عشر من السنين ..
كنت تلك السنين ظله وخاصته فلا يدخل مدخلا الا وانا بجنبه ..
لا أفارقه الا وقت القيلولة ونعود لنلتقى بعد العصر فلا نفترق الا بعد عشاء وسمر طويل ..كانت تلك السنون فارقة فى حياتي العلمية درست عليه فيها بعض متون المنطق والأصول وأجازني فيها إجازة أعتبرها من أهم ما تحصلت عليه ..
ليس تلك الإجازة فقط هي ما استفدته من شيخنا العلامة حمدا فلقد استفدت من منهجه الإفتائي الرصين ومن أخلاقه ومن تواضعه ومن رغبته فى نفع المسلمين ..
فالعلامة حمدا يرى أن المرء ينبغي أن يكون إنسانا قبل أن يكون شيئا آخر وتعني الإنسانية فى منظوره أن يكون متواضعا بسيطا فلماذا التكبر وعاقبة هذا الامر كله الى تراب والى عظام نخرة !!يستوى فى مجلس العلامة حمدا ولد التاه الوزير والبواب والغني والفقير الوجيه والخامل فكل له مكانه و منزلته فلا تراه يستثقل بجليسه وزائره مهما أطال الحديث والجلوس بلا فائدة ..
ولقد يصيبني الملل من طول جلوس البعض بلا فائدة ولا عائدة لكن شيخنا حمدا لا يصيبه شيئ من ذلك ..
لسنوات عديدة كان البرامج اليومي للعلامة الشيخ حمدا ولد التاه رحمه الله يبدأ فى حدود التاسعة صباحا حين يجلس فى صالون مكتبته تحيط به الكتب من كل جانب ويبدأ فى استقبال المستفتين وسائلي الحاجات والعفاة والمستشفعين به عند أصحاب الجاه والسلطة ويمضي النهار وشطر من الليل وهو على تلك الحال فى ذلك المجلس ...
عجبت منه كثيرا كيف يمضي كل هذا الوقت دون استراحة ودون انفضاض لهذا المجلس اليومي المتعب ..
يعجبني العلامة حمدا ولد التاه رحمه الله فى هذا الخلق الرفيع الذى هو سجية غير تخلق..
هذا التواضع الجم ..هذا الاستعداد للنفع ..هذه الرغبة فى نفع المسلمين ..
هذا الاحترام للآخر ..كان العلامة حمدا ولد التاه يرى كل أحد يستحق فليس هناك من لا يستحق ولقد عاينته مرارا يشجع أقواما ثم تراهم بعد فترة أصبحوا قادرين على الفعل ..العلامة حمدا ولد التاه عالم أصولي منطقي مقاصدي ولذلك تميز عن علماء عصره فاختصر موافقات الشاطبي بأسلوب مكتنز..
قال لي مرة ما رايك فى مختصرنا للموافقات فقلت له إنه كتاب العلماء فى الموافقات فوافق على هذا التوصيف ..
ذلك لأن كتابه ذاك لا يمكن أن يستوعبه من لم يدرس من قبل كتاب الموافقات ..استوعب العلامة حمدا ولد التاه علوم المحظرة من نحو وفقه ومنطق وبيان وعروض ولذلك لخصها فى كتابه موطأ المحظرة ولقد شرفني بتقديمه وبأن يكون اسمي الى جنب اسمه فى الصفحة الأولى لهذا المختصر ..
لعل الخاصية الكبرى لشيخنا العلامة حمدا ولد التاه رحمه الله هي قدرته الفائقة على حل عويصات النوازل والمشكلات الفقهية ولقد صدق فيه قول القائل بصير بحل المشكلا كانما يكاشف عنها ثم يكشف تملك اطراف القضاء وفقه وما هو الا مالك ومطرف ..
يعتبر شيخنا العلامة حمدا ولد التاه أن العالم بالقواعد الفقهية والمقاصد الشرعية هو من يمكنه انتاج فقه وسطي يناسب الزمان وأحوال الناس ..
يكثر العلامة حمدا ولد التاه رحمه الله من الاستشهاد بالعلامة الشيخ محمد المامي الباركي ويعتبره أنموذجا فى فهم فقه الواقع والنوازل ويعتبر كتابه إبداعا يستحق المدارسة والاهتمام ..
يعتبر العلامة حمدا ولد التاه رحمه الله أول من جعل أبا اسحق الشاطبي والقرافي وسلطان العلماء العز بن عبد السلام أسماء متداولة ضمن قاموس الحقل المعرفي للنخبة العالمة فى هذه البلاد.
عند العلامة حمدا ولد التاه ملكة خاصة فى إيجاد الحلول سأله مرة أحد الوزراء عن تغيير فى السلطة حصل فى البلاد ما هو حكم الشرع فيه ؟فقال له تعني حكم الشرع فيه قبل الوقوع او بعد الوقوع فعجب الوزير لهذا الجواب البليغ ..ذلك لان الجواب ينتج الحكم الشرعي وفق مسطرة الإفتاء المالكية المعتمدة ...
كان العلامة حمدا ولد التاه بمنزلة مالك بن أنس فى هذه البلاد ليس فقط لأنه ضربت أكباد وسائل النقل اليه من كل حدب وصوب وليس فقط لمنهجه الوسطي فى الإفتاء ولكن أيضا لاهتمامه بنشر مذهب مالك واهتمامه به ضمن ثلاثية ابن عاشرالتى وحدت الأمة الشنقيطية فى المعتقد والتعبد ..
كان مجلس شيخنا العلامة حمدا ولد التاه يجمع المتناقضات فللفقيه مكانته وزمانه وللصوفي المخبت مكانته وزمانه وللفنان المغني المبدع وقته و مكانته وللسياسي ورجل السلطة وقته ومكانته .
كنا فى مجلس الشيخ كاننا الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا فى ليلة من ليالي سمره مع خلانه واطوارا نميل لذكر دارا وكسرى الفارسي وذى رعين ونحو الستة الشعراء ننحو ونحو مهلهل ومرقشين ونذهب تارة لأبي نواس ونذهب تارة لابن الحسين . قضينا بذاك المجلس سنين لا تعد من الزمان ..
فهاهي ذهبت تلك السنون وهاهو ذاك الطود قد ذهب !!
رحم الله شيخنا حمدا ولد التاه وليس اصدق فيه من رثائه هو لشيخه فلكأنه يرثي نفسه :
ستبكي المشكلات بكل ناد ويبكي النص احمر في المداد
ويبكي الكحل والفرس المجلي وتنتحب الحلاوة في سواد
وتبكي النون رافعة يديها لأسرار ذهبن من البلاد
وتنتحب المطالب وهي سبع وينقلب اللزوم الي عناد
وتهتك حرمة المشهور جهرا وتنتشر الجهالة في العباد
لفقد الشيخ قدوتنا جميعا اذا ما السائلون اتوا بدادي
رحم الله شيخنا العلامة حمدا ولد التاه رحمة واسعة وتقبله فى عليين وإنا لله وإنا اليه راجعون ..
الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام
الجمعة ضحوة من يوم 16فبراير