احتل الرئيس المدني الثاني، الشيخ الهادئ الوقور سيدي محمد بن الشيخ عبد الله رحمه الله تعالى مكانة سامية في الذاكرة السياسية الموريتانية، باعتباره الرئيس المظلوم الذي أخرج عنوة وقسرا من القصر الرئاسي، وظل مع ذلك متشبثا بشرعيتة، لكنه ظل أكثر تشبثا بقيمه وأخلاقه، وظل حريصا حرصا تاما على أن لا يرد على الإساءة التي وجهت إليه من أكثر من جهة، وبأساليب مختلفة ومتعددة، ومنها قطع راتبه ومنعه من امتيازاته كرئيس سابق، وهو القطع الذي استمر طوال 11 سنة، قبل أن تعاد إليه تلك الحقوق نهاية العام 2019م.
تمر اليوم الذكرى السابعة عشر لتنصيب الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، ليكون أول رئيس مدني للبلاد، في فاصل ديمقراطي لم يطل كثيرا حتى أطلت من جديدة دورة الانقلاب.
كان الاستثناء في الإطاحة بالرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله أنه لم يقبل مثل من سبقوه، ودخلت البلاد في أزمة استمرت أكثر من سنة قبل أن يتم إبرام اتفاق دكار الذي بموجبه تنازل ولد الشيخ عبد الله عن السلطة، وألقى خطابه الوداعي المؤثر، قبل أن يعود إلى قريته الصغيرة، لمدن ويرسم خطى حياة وادعة بين بيته المتواضع ومسجده.
في مسيرة ولد الشيخ عبد الله كثير من المواقف النبيلة، نستعرض منها جوانب قليلة متعلقة بالشأن العام والملف السياسي.
اختاري بين بيتك والأرض التي منحك الوزير:
في بداية السبعينيات، منح وزير منتدب لدى وزير الدولة للاقتصاد أرضا كبيرة وفي منطقة استيراتيجية لزوجة الوزير سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، كان ولد الشيخ عبد الله يومها وزيرا يرأس عدة قطاعات وزارية، وعندما علم بالأمر طلب من حرمه إعادة الأرض المذكورة، وهو ما اعترضت عليه، وبعد أيام سألها هل أعدت الأرض أجابت بالنفي: ليرد عليها إذا عليك أن تختاري بين بيتك وأبنائك وتلك الأرض.
تعلق زوج الرئيس الأسبق بعد ذلك..لم يكن لي بد من رد تلك الأرض التي تقوم عليها الآن عمارات هائلة في قلب العاصمة.
لا أفرق بين الموريتانيين
في نهاية الثمانينيات تولى الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وزارة الصيد، وذات مرة تلقى اتصالا من مسؤول سام جدا، يسأله بكل غضب: من هؤلاء الذين يعملون دائما على البواخر الموريتانية، فرد الوزير ببرودة أعصاب إنهم موريتانيون،
ليرد المسؤول: لكنهم ليسوا الموريتانيين البيض
أجاب الوزير سيدي محمد: عفوا أنا لا أعرف الموريتانيين بألوانهم.
غضب في وجه سفير أجنبي
ذات مرة قدم أحد سفراء دولة السودان شكواه واحتجاجه مما اعتبره عمليات نصب تعرضت لها شركة شنقيتل من بعض التجار الموريتانيين الذين باعوها أراض مقفرة في بعض ولايات الداخل الموريتانية، بأسعار باهظة جدا، ليكتشف أنها لا تساوي ربع المبلغ الذي دفع فيها.
واستفاض الوزير في الشكوى مما تعرضت له الشركة المذكورة من احتيال، ودون تحفظ بدأ يتحدث عن انتشار هذه الممارسات في صفوف الموريتانيين واستغلالهم لكل مستثمر أجنبي
تفاجأ الرجل بالرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ينهض غاضبا، ويقول له: لقد انتهى اللقاء، وأهنت الشعب الموريتاني، ووجهت له أمامي وفي وجهي كل هذه النعوت السيئة، ويبدو أنك غير صالح لإدارة علاقة بلادك معنا.
وجد السفير نفسه في ورطة، مضطرا لمغادرة القصر الرئاسي، قبل أن يعود بعد ذلك وبعد استنفاد كل جهوده معتذرا للرئيس وللشعب الموريتاني.
أرغم ابنه على الاستقالة
بعد فترة قليلة من تنصيبه رئيسا للبلاد، رفعت إحدى شركات الاتصال أحد أبناء الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله من وظيفة استشارية بسيطة كان يعمل فيها إلى منصب تنفيذي سام.
وما إن علم الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بترقية ابنه حتى طلب منه الاستقالة من الشركة، وهو ما استجاب له ابنه الذي تحول إلى قطاع بعيد جدا من تخصصه عن الشهادة العليا التي يحملها في القانون من الجامعات الباريسية، لقد تحول الشاب إلى مستثمر بسيط في سوق المواشي، بعيدا جدا عن الوظائف السامية وروح السلطة ومنافعها.
في الثالث والعشرين من نوفمبر 2022م، ودع الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الدنيا، إثر إصابته بنوبة قلبية وضيق تنفس عارض، ليوارى الثرى في مقبرة أسلافه بقرية لمدن الوداعة، ولسان الحال فيه ينشد قول الشيخ ولد مكي:
ﻳﻼﻟﻲ ﻣﺬﺍ ﺩﻭﻥ ﻇﻦ * ﻣﻦ ﻟﻴﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻓﻦ
ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻓﻠﻤﺪﻥ ﻣﻨﺪﻓﻦ* ﻣﻦ ﻣﻌﻦ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻐﺎﻳــــﺔ
ﺃﻳﻼﻟﻲ ﻣﺬﺍﻓﻴﻪ ﻣــــﻦ * ﺻﻮﻡ ﺃ ﺻﻠﻮﺓ ﻭﺅﻓﺎﻳــﺔ
ﻣﺪﻓﻮﻥ ﺍﻣﺬﺍ ﻓﻴﻪ ﻋﺎﺩ* ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﻣـــــــﻦ ﺁﻳﺔ
ﻣﺪﻓﻮﻥ ﺍﻣﺬﺍ ﻓﻴﻪ ﺯﺍﺩ * ﻣـــــﺪﻓﻮﻥ ﺍﻣـﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ
موقع الفكر