الأمن والإعلام والتفتيش .. أحدث أسلحة المتصارعين فى معسكر الرئيس

جمعة, 12/28/2018 - 12:09

انتقلت الحرب الدائرة بين رموز الأغلبية الداعمة للرئيس محمد ولد عبد العزيز من أروقة الحكومة والحزب إلى ميدان الأمن والقضاء والإعلام، وسط استعمال مجمل الأدوات المتاحة لاستعادة التوازن وإعادة توجيه البوصلة.

 

الهدوء الذى أعقب تعيين الوزير الأول محمد سالم ولد البشير فى منصب الوزارة الأولى لم يعمر طويلا، فالوزير المكلف أعاد توجيه البوصلة، وأستغل ما جمع له من مصالح بعد رحيله المفاجئ من أجل الانتقام ممن يعتبره العقل المخطط فى نخبة الشمال سيدى محمد ولد محم، بحكم اتهامه بالوقوف خلف الكثير من قرارات الرئيس، ومنها وضع حد لمكانته فى هرم السلطة التنفيذية قبل أشهر قليلة من أهم استحقاق تمر به البلاد.

 

جمع الوزير الأول السابق يحي ولد حدمين مجمل أوراقه، وقرر وضع الرئيس وحاشيته ورئيس الحزب الحاكم وأهله، والدوائر الأمنية والقضائية أمام معركة جديدة من صنعه، فهو لم يعد لديه مايخسره على حد تعبيره لأبرز المقربين منه.

غير أن ولد محم الذى أنتصر – كما يقول أنصاره وبعض خصومه-  فى معركة الحزب الداخلية بعد معركة تشخيص طويلة وهيكلة بالغة التعقيد، وعاد للحكومة ودهاليز صنع القرار دون ترك الحزب وتسييره، وأستفاد من وجود حليف فى السلطة يهمه تسيير المرافق الحكومية التابعة له أكثر من خلق الأحلاف أو تدمير الأعداء، وجد نفسه فجأة أمام معركة أخرى، سلاحها "التفتيش" ، وهدفها التدمير والإشغال، وآلياتها تقارير أنضجت كل فصوله فى مختبر الوزارة الأولى، وتم تحرير خلاصاتها فى بيت المكلف بمهمة، وأستخدم فيها الإعلام بشكل متدحرج من أجل الضغط على الرئيس للتحرك، والوزير لوقف استئصال خلايا المكلف النائمة فى هرم السلطة،أوترفيع خصومه وضحاياه بشكل مدروس.

 

يوم الخميس السادس من يوليو 2018 شن الوزير الأول يحي ولد حدمين هجوما عنيفا على المديرة العامة للتلفزيون خيرة بنت الشيخانى فى اجتماع الحكومة الأسبوعى، وسانده اثنان من أعضاء التشكلة الوزارية فى ماذهب إليه من تحليل واتهام وامتعاض، بعد أربعة أيام فقط من انعقاد القمة الإفريقية بنواكشوط .

قال الوزير الأول فى معرض حديثه الذى أستمع إليه الرئيس بانصات على غير المعتاد إن القمة كانت ناجحة والجمهور تابعها بشكل كبير، لكن سوء التغطية ومشاكل البث وضعف التعامل الإعلامى الرسمى معها، كلها أمور ساهمت فى تضييع الكثير من الجهد الحكومى، وحجبت صورة جميلة كان يجب اخراجها للعالم بشكل أكثر جاذيبة.

أستفسر الرئيس فى نفس الاجتماع وزير الثقافة والعلاقات مع البرلمان محمد الأمين ولد الشيخ عن أسباب ضعف التغطية التى ذكر الوزير الأول والنقص الذى تعانى منه التلفزيون قائلا " أنتومه تلفزتكم مشكلته شنه؟". حاول الوزير محمد الأمين ولد الشيخ امساك العصى من الوسط، وقال بأنه سيراجع الأمور دون الخوض كثيرا فى المشاكل، فالرجل لايريد الاستمرار فى المعركة ويدرك أن رفاقه داخل المجلس يستمعون بشكل جيد ويدونون كل صغيرة وكبيرة.

كان من أبزر ما تداوله الوزراء خلال الجلسة الأسبوعية للحكومة هو أن المديرة العامة لاتتعامل بمنطق الاحترام مع مسؤوليها، وأنها لا تتقبل النصح من أحد ولا تنفذ الأوامر مهما كانت طبيعتها.

كان يحي ولد حدمين يستحضر موقف المديرة العامة خيرة بنت الشيخانى من طلب تقدمت به وزيرتها المباشرة (هاوا تانديا) من أجل تغطية نشاط للحزب الحاكم فى مقاطعة السبخة، وهو ما ردت عليه بالرفض، لأنها لايمكنها تغطية أنشطة الحزب كافة ولايمكنها تغطية نشاط وزير دون الآخرين، وأنها قررت الإكتفاء بتغطية النشاط المركزى الذى سينظمه الحزب، قبل أن تطلب منها كتابة الأموامر فى حالة إصرارها على خرق القواعد المعمول بها من قبل الطاقم المكلفة بتغطية الأنشطة ومتابعتها.

 

لم تك تغطية القمة الإفريقية هي محل الجدل أو مبعث غضب الوزير الأول – كما تقول دوائر تنفيذية بالغة الإطلاع -، بل إن ترشيحات حزب الاتحاد من أجل الجمهورية المقرر إعلانها نهاية الأسبوع نفسه ( 9 يوليو 2018) هي مصدر الإزعاج، لقد خابت آمال الوزير الأول يحي ولد حدمين فى فرضه مرشيحه داخل الحزب، وكانت التكلفة الأخلاقية والسياسية جد كبيرة فى رأي الرجل، حيث عجز الشخص الثانى فى هرم السلطة التنفيذية بموريتانيا عن تأكيد مكانته لأنصاره المتحمسين لانتخابات بلدية وتشريعية كانوا يمنمون بها النفس منذ سنتين.

 

لقد أدار الرجل وجهته إلى البيت – الذى طالما حل ضيفا عليه قبل انهيار العلاقة مع زميله-  لقد خسر معركة الحزب وقد حان وقت الانتقام للشرف، فالدونية التى تعاطى بها رئيس الحزب الحاكم معه ليلة افتتاح الحملة المحضرة لتفعيل الحزب الحاكم فى الثانى من مارس 2018 لم يبتلعها الوزير الأول ونفخت فى نارها الصحافة بشكل كبير، و القمة الإفريقية كانت المدخل الأهم لمتابعة التلفزيون والإطلاع على واقعه، أو قل الضغط على رئيس الحزب الحاكم سيدى محمد ولد محم وإجباره على العودة لحضن الشلة التى خسرت حليفا كانت تعول عليه فى فك لغز الشمال الممسك بالسلطة فى رأيها، والتموقع بشكل يسمح لها بالاستمرار أكثر.

لم يمانع المفتش العام للدولة عبد الرحمن ولد محمد فى مسيارة رفيقه ، وكيف وهو الفائز للتو – كما تقول مواقع اعلامية كثيرة- بهدية العام ( تعيين ابنته بمرسوم من الوزير الأول يحي ولد حدمين فى المفتشية ذاتها(، إنها أصول الشفافية الإفريقية كما تقدمها التجربة الموريتانية للآخر دون رتوش.

 

فى التاسع من أكتوبر 2018 أوقف الوزير الأول يحي ولد حدمين استقبال الزوار أو الاتصالات الحكومية، وألغى كل المواعيد السابقة، وقرر توسيع النقاش مع لجنة التفتيش المكلفة بملف المديرة السابقة للتلفزيون خيرة بنت الشيخانى، لقد كانت جلسة عمل بامتياز فيها تفقد فيها المسؤول الأول عن مكافحة الفساد بالبلد واقع العمل فى أبرز الدوائر التابعة له.

 

فى الحادى عشر من أكتوبر 2018  توقعت مصالح الوزارة الأولى أن يكون تقرير المفتشية العامة صادما لرئيس الحزب الحاكم وزوجه، وقالت المصالح فى تقرير نشر فى أكثر من موقع إن المفتشين قد يطالبون المدير بمبالغ تصل مئات الملايين.

 كانت الوزارة الأولى تقوم بعملية استشراف عادية، فالتقرير لايزال محل تداول بين المدير والمفتشين، لكن النتائج قد تعرف من لدن أصحاب البصيرة، أو قل يجب أن يمهد لها فى الإعلام خوفا من أي تسوية محتملة أو ضغط من بعض المحيطين بالمديرة، وغير المقتنعين بجدية الوزير الأول فى محاربة الفساد.

فى التاسع والعشرين من أكتوبر 2018 تلقى الوزير الأول يحي ولد حدمين رسالة جد مزعجة من الرئيس، "محمد سالم ولد البشير هو الوزير الأول القادم، وعليك العودة للمنزل فى انتظار اتصال آخر".

لم يتسوعب أنصار الرجل الصدمة، لكنهم حاولوا التكيف معها بشكل سريع. وبعد صدور مرسوم تكليفه بمنصب وزير، عادت الروح السياسية إلى أنصاره، إنه محل ثقة والرئيس مقتنع به، ولكن ضغط المحيطين به كان وراء تعيين الوزير الأول الجديد !.

لم ينتظر يحي ولد حدمين ، - وقد تجاوز صدمة الإقالة المفاجئة - عودة المحتفلين برحيله إلى البيوت، ليذكر الكل بأنه لايزال ضمن المعادلة، أو على الأقل لديه القدرة على الإضرار، وهو سلوك أستثمر فيه خلال العشرية الأخيرة أكثر من غيره.

سرب الرجل سلسلة مهام كلف بها من قبل الرئيس المهتم بتخفيف صدمة السقوط الحر لأحد أبرز معاونيه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، فمنحه التفتيش بذراعيه ( المفتشية العامة للدولة ومحكمة الحسابات) ومتابعة بعض المفات الأخرى تبين لاحقا أن المنطقة الحرة ليست منها، ولم يحسم الجدل لحد الآن حول وكالة التضامن والعاملين فيها،

 

واصل ول حدمين السير فى مشروعه، وأنشغل الآخرون بترتيب البيت بعد سنين من التدافع والصراع، لقد كانت هدية السماء للمكلف بمهمة من أجل تمرير مايريد دون ضغط أو رقيب.

وفى السادس والعشرين من نوفمبر 2018  أستغل الوزير المكلف بمهمة يحي ولد حدمين خلو العاصمة من ساكنها من أجل توجيه ضربة لأبرز خصومه، لقد كانت الخطة – وفق مصادر بالغة الإطلاع على الملف- جرجرة المديرة خيرة بنت الشيخانى أمام الشرطة والنيابة يوم عيد الاستقلال فرئيس الحزب الحاكم الذى خطط وأجتهد – وفق خصومه- لعيد استقلال لاوجود للوزير الأول يحي ولد حدمين فيه، يجب أن يبتلع الكأس المرة ، يجب قتل الفرح لديه بالخبر الصادم..

أعد المفتش العام للدولة رسالته فى اللحظة التى كان فيها موكب ولد عبد العزيز يتحرك من "أنبيكت لحواش" باتجاه النعمة، وكان فيها سيدى محمد ولد محم فى الطريق إلى النعمة قادما من ولاته، بينما كان المدير العام للأمن الفريق محمد ولد مكت يستطلع حركة الوفود الزائرة للمدينة ويراقب التشكيلات العسكرية المشاركة فيها، وعينه على جديد الجارة الجنوبية والحهد المبذول لتأمين العرض العسكرى فى منطقة بالغة الخطورة.

ضغط ولد حدمين بشكل جدى من أجل تحريك الملف عبر شرطة الجرائم الاقتصاد ووزير العدل الحليف التقليدى له داخل التشكلة الوزارية، لكن حركة الأجهزة الأمنية كانت أكثر تعقيدا مما تصور.. لقد تم حفظ الأمر دون حراك فى انتظار عودة الرئيس، التشويش على الاستقلال لم يكن هدفا مشتركا لكل الدوائر السياسية والأمنية، واستعجال الوزير بشأن الملف من أجل توجيه الضربة القاضية لخصومه، لم يلمس مثله لدى الأطراف الأخرى، لقد كان عليه المغادرة باتجاه "فندق أنكادى" دون تحقيق حلمه، فثلاث سنوات من الصراع لمكشوف جعلت الأجهزة الأمنية تتريث بشكل غير معتاد فى نظره، وقصارى جهد المفتش هو إحالة التقرير وقد أحيل..

حاول الوزير المكلف بمهمة استنفار كل جهوده من أجل الزام المديرة بالحضور، لكن الأجهزة الأمنية المكلفة بمحاربة الفساد صنفت التقرير ضمن التقارير الكيدية، وأقترح البعض إعادة التفتيش من جهة محايدة، ورأى آخرون إغلاق الملف لضعف الأدلة، والتعسف فى فهم وتفسير النصوص القانونية الناظمة للتسيير.

وبغض النظر عما ستؤول إليه نتائج التحقيق وتعامل الأجهزة المختصة معه، فقد حسم الرجل أمره، وأكد أنه بالفعل لايزال ضمن دوائر التأثير فى صنع القرار، وأن معركته مع خصومه مستمرة، وقودها التفتيش والإعلام والأمن.. فى انتظار حسم قد يطول بفعل تردد الرئيس فى التصرف تجاه معاونيه، حتى ولو باتت لديه القناعة بأن الحرب الدائرة بين أبرز رموز التشكلة المحيطة به خرجت عن المألوف فى العالم الثالث من التعامل بين أركان النظام الواحد.

 

 

سيد أحمد ولد باب / كاتب صحفى