
بقلوب يعتصرها الحزن، وعيون تفيض من الدمع، وصدور يغمرها الأسى، تلقّينا نبأ وفاة العلامة الفقيه، والمحقق المدقق، حامل لواء المذهب المالكي، ومشعل العلم في المشرق العربي، العلامة الشيخ محمد المختار الملقب مختاري بن امحيمدات الداوودي، الذي ودّع الدنيا، بدولة الإمارات العربية المتحدة، بعد أن ملأ الأرض نورًا من العلم، وضياءً من الفضل، وسناءً من الحكمة والبصيرة.
ولد الشيخ سنة 1942م شرقي مدينة باسكنو في الشرق الموريتاني، وتربى في بيئة علمية تهتم بالعلم والتربية، حيث بدأ بدراسة القرآن على والده حتى أتقنه تجويدا ورسما وضبطا، وذلك بروايتي ورش وقالون عن نافع، كما درس على والده المتون الفقهية، لتواصل دراسه إلى أن تمكن من زمان العلوم الشرعية واللغوية حفظا وفهما وإتقانا.
لقد كان الشيخ الفقيد من العلماء العاملين، والفقهاء الراسخين، جمع بين التبحّر في العلوم، والتمكن من أدوات الاجتهاد، والتواضع الجمّ، والخُلق الرفيع، فكان بحرًا في الفقه، دقيق النظر في الأصول، قوي الحجة في المناظرة، حاضر البديهة في المجالس، لا يُذكَر العلم المالكي في المشرق إلا وكان اسمه في الصدارة.
عُرف الفقيد بغزارة علمه، وقوة استحضاره للنصوص والأدلة، حتى شهد له بذلك كبار علماء الشريعة في مشارق الأرض ومغاربها، وما زالت صدى مناقشاته العلمية، ومحاضراته المباركة، تملأ المجامع وتبهج القلوب والعقول.
ولم يكن الشيخ مختاري ولد امحيدات مجرد ناقل للعلم، بل كان من المؤلفين المتقنين، الذين خلّدوا آثارهم ببراعة القلم وجزالة العبارة، حيث يكفيه فخرًا ماترك من تآليف من أبرزها نظمه لمختصر خليل الذي سماه "التاج الأغر في شرح نضار المختصر"، فجاء نظما فريدًا في سبكه، عميقًا في معناه، فصار مرجعًا للدارسين، ودليلاً للسالكين في طريق الفهم والتحصيل.
وإن رحيل الشيخ مختاري بن امحيمدات، ليس رحيل فرد، بل هو انطفاء قنديل من قناديل الهُدى، وغياب عَلَمٍ من أعلام الأمة، وفقدٌ لا يُعوّض إلا برحمة الله وتداركه للأمة بعلماء ربانيين من طينته وجنسه.
نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويُخلف الأمة خيرًا في مصابها الجلل، ويُبارك في تراثه العلمي وأثره الباقي.
"إنا لله وإنا إليه راجعون"
