
مع إعلان الإدارة الأميركية أخيرًا عن خطة لوقف الحرب في غزة والشروع في مرحلة سلام وإعمار، عاد النقاش مجددًا حول فرص الخطة في إنهاء واحدة من أعقد الحروب وأطولها نزيفًا.
رغم ما أثير من تحفظات وتساؤلات مشروعة حول الخطة، فإنها - للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب - تضع على الطاولة تصورًا متكاملًا لوقف القتال، منع التهجير القسري، وتمكين إدارة فلسطينية انتقالية، مع فتح مسارات إعادة إعمار وتدفق مساعدات إنسانية عاجلة.
لكن السؤال الجوهري الذي يتقدم اليوم على كل ما عداه: ما موقع مصر من هذه الخطة؟ وما حجم الدور الذي يستطيع الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يمارسه لضمان أن تتحول البنود من نصوص إلى وقائع على الأرض؟
مصر وثقلها التاريخي والجغرافي.
لم يكن حضور مصر في الملف الفلسطيني خيارًا سياسيًا عابرًا، بل قدرًا فرضه التاريخ والجغرافيا؛ فهي الجار المباشر لقطاع غزة عبر معبر رفح، وهي الدولة العربية التي وقّعت معاهدة سلام مع إسرائيل وحافظت عليها أربعة عقود، كما أنها تمتلك رصيدًا من الوساطات الناجحة في كل جولات التهدئة السابقة، لذلك فإن أي خطة، أميركية كانت أو دولية، تبقى ناقصة إذا لم تمر عبر القاهرة.
الرئيس السيسي الخط الأحمر وضمانات منع التهجير
أحد أبرز المخاوف الفلسطينية والعربية من الحرب كان سيناريو التهجير الجماعي نحو سيناء، وهو ما رفضته مصر بشكل قاطع وحذرت من تبعاته على استقرار المنطقة بأسرها.
هنا يبرز ثقل الرئيس السيسي؛ إذ استطاع أن يضع خطًا أحمر واضحًا أمام أي محاولات لتفريغ القطاع من سكانه.
إن ترجمة هذا الموقف إلى جزء ملزم من الخطة الأميركية يشكل ضمانة عملية للفلسطينيين وللمجتمع الدولي، ويمنح الخطة شرعية ميدانية لا يمكن تجاوزها.
القاهرة كجسر للإعمار والمساعدات
الخطة الأميركية تتحدث عن تدفق مليارات الدولارات لإعادة إعمار غزة، لكن هذه الأموال تحتاج إلى ممر آمن وفاعل.
مصر هي الجسر الطبيعي لذلك؛ من خلال معبر رفح والموانئ المصرية، ومن خلال قدرتها على استضافة مؤتمرات المانحين وتنسيق عمل المؤسسات الدولية.
بل وأكثر من ذلك، يمكن للقطاع الخاص المصري أن يكون شريكًا مباشرًا في مشروعات البنية التحتية والإسكان والطاقة، مما يمنح القاهرة نفوذًا عمليًا يضمن سرعة التنفيذ وشفافية التوزيع.
الوسيط السياسي والضامن الأمني
لا تقتصر وظيفة مصر على تسهيل الإعمار، بل تمتد لتشمل دور الوسيط السياسي والضامن الأمني، فنجاح الإدارة الفلسطينية الانتقالية التي تقترحها الخطة مرهون بقدرتها على تقديم خدمات يومية وإدارة رشيدة، وهو أمر يحتاج إلى غطاء عربي داعم.
هنا يمكن لمصر أن تقود حوارًا فلسطينيًا داخليًا برعاية عربية، يفتح الباب أمام مشاركة أوسع للفصائل، ويمنع تكرار سيناريو انفراد طرف واحد بالقرار.
كذلك يمكن للقاهرة أن تطرح صيغة لمراقبين دوليين أو عرب في المعابر، بما يرسخ الثقة ويحول دون أي خروقات تعيد شبح المواجهة.
تحويل التحفظات إلى أوراق قوة
لا شك أن الخطة الأميركية ليست خالية من العيوب والثغرات؛ فهي لم تقدم بعد تفاصيل كافية حول آليات انسحاب القوات الإسرائيلية ولا الضمانات الكاملة لوقف العمليات العسكرية، كما أن قبول حماس ما زال معلقًا على جملة من الشروط.
لكن هنا أيضًا يمكن لمصر أن تلعب دورًا محوريًا؛ من خلال الضغط الدبلوماسي على واشنطن لتوضيح هذه الآليات، ومن خلال التفاوض المباشر مع الفصائل لإدماجها في العملية السياسية.
إن تحويل هذه التحفظات إلى أوراق تفاوض يعزز مكانة القاهرة ويمنحها موقع صانع التوازن الحقيقي.
لدور مصري فاعل
أولًا: اشتراط آليات واضحة لمنع التهجير وربط أي التزامات مالية أو سياسية من الجانب المصري بتنفيذ هذه الضمانات على الأرض.
ثانيًا: إدارة المساعدات والمعابر عبر آلية مشتركة تجمع بين مصر والأمم المتحدة وشركاء أوروبيين، لضمان الشفافية وتوزيع المساعدات بعدالة
ثالثًا: استضافة مؤتمر مانحين دولي في القاهرة لتأمين تمويل عاجل وربط التعهدات بجدول زمني محدد.
رابعًا: قيادة حوار فلسطيني شامل يفتح الطريق أمام حكومة انتقالية موسعة تستعيد الشرعية الشعبية وتمنع عودة الانقسام.
ختامًا..
الخطة الأميركية قد تكون بداية طريق طويل لإنهاء الحرب في غزة، لكنها وحدها لا تكفي، وما يجعلها قابلة للحياة هو الدور المصري، بما يحمله من ثقل جغرافي وسياسي ورصيد تاريخي.
الرئيس عبد الفتاح السيسي يضع العالم والقوى الكبرى أمام لحظة اختبار كبرى؛ فإما أن يكسبوا الموقف المصري الرافض للتهجير والمتمسك بالسلام ويترجموه إلى ضمانات دولية حقيقية، وإما أن تظل الخطة مجرد نصوص في أرشيف الأزمات.
نجاح القوى الفاعلة والأطراف المعنية مع مصر في هذا الدور يعني أن دماء كثيرة ستُحقن، وأن إعمارًا طال انتظاره سيبدأ، وأن الفلسطينيين سيجدون في القاهرة سندًا استراتيجيًا لا غنى عنه في رحلتهم نحو السلام والكرامة.