
جلست أستمع إلى خطبة الجمعة، والخطيب يتحدث بحماسة واثق لا يتلعثم، كأنه يروي بديهيات لا جدال فيها (فتن آخر الزمان، عذاب القبر ، علامات الساعة)، وأحاديث الغيب التي تروى وكأنها وحي جديد، والناس بين يديه صامتون، يستقبلون كلماته بإذعان وخشوع كأنها قرآن يتلى، لا روايات بشرية ولدت في عصور التدوين.
حينها حدثت نفسي أن أقف وأقول يا قوم إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تتحدثون عنه قال كما أخبر ربه في القرآن : قل لا أعلم الغيب، لكنه صوت خافت وسط جموع أسرتهم المرويات، قلت في نفسي: ما جدوى الكلام في بحر من التيه حيث تقدس الأسطورة وتهجر الهداية.
خرجت من المسجد مثقلا بالأسى، مرددا أن هذا الواقع لا يصلحه وعظ عابر، بل ثورة تجديدية كبرى، زلزال تهز عروش الوهم تقوده عقول مؤمنة بالقرآن وحده مصدرا للهداية، وسلطة فكر ومؤسسات دولة تزيح الركام عن مصدر النور.
لقد غمر كتاب الله بغبار القرون واستبدل الخالق جل وعلا بالمرويات، والبيان الإلهي بكلام الرواة، وما لم يخرج القرآن من تحت هذا الركام ليعلم الناس أن لا غيب إلا ما تحدث الله به في كتابه، ولا عذاب قبل الحساب، ولا سنة قولية الا ما أمر الله نبيه في كتابه الذي لا ريب فيه أن يقوله: “قل”، فلن تشرق الهداية في القلوب، ولن تنهض الأمة من غفلتها.
تحولت صلاة الجمعة التي كانت أحب ساعات الأسبوع إلى قلبي، إلى موعد يتجدد فيه الألم، أدخل المسجد شوقا للصلاة ولقاء المؤمنين، فأجد نفسي في مواجهة خطيب يعيد ويزيد في القصص والمرويات التي تناقض صريح القرآن الكريم، يتحدث بثقة وكأن كلامه تنزيل من السماء، يغيب عنه تماما أن الله تعالى قال في كتابه ” ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء”، وأنه قال ” ما فرطنا في الكتاب من شيء”
أستمع والحرقة في قلبي تزداد، كأن القرآن لم يعد كافيا، وكأن الوحي لم يكمل الهداية، أتلفت حولي فأرى وجوها خاشعة وقلوبا مستسلمة لما يروى، فيتضاعف حزني.
أحب الصلاة وأحب اجتماع الناس لله رب العالمين، لكنني أخرج منها مثقلا بالشعور أن هذا الاجتماع الجميل في ظاهره اجتماع مغشوش، صفوف متراصة ظاهرا، لكن القلوب متفرقة بالقناعات الموروثة والمرويات المتعارضة، وقد ابتعدت عن مصدر النور والوحدة كتاب الله.
بعد الصلاة داهمني سؤال لا يفارقني: ما فائدة الحديث المتكرر عن عذاب القبر وفتن آخر الزمان؟ ما الهدف من زرع هذه القصص في وجدان الناس، وهل يدرك الخطيب والمصلون في أي ظروف روج لها ولأي هدف؟
حين تتأمل بعمق، تدرك أن هذه المرويات لم تزرع ولم تصنع عبثا، لقد كانت في عصور الانقسام السياسي والديني وسيلة للسيطرة على العقول، تبقي الناس في دائرة الرعب بدل ساحات الوعي.
خلق عذاب القبر في تلك الأزمنة التي وظف فيها الدين لإخضاع الجموع، ليزرع الخوف من الموت، و” الفتن الكبرى” لتجعل الناس يستسلمون للواقع فلا يطالبون بحقوق مشروعة ولا كرامة ولا مساواة ولا بعدل.
وهكذا تحول الدين حينها إلى منظومة خوف وإخضاع، لا إلى رسالة حرية ومسؤولية وكرامة..
المفارقة المذهلة أن القرآن الذي أنزله الله رحمة وطمأنينة وهدى، حجب خلف روايات تصور الإله قاسيا والإنسان مذنبا منذ ولادته، ففقد المسلمون جوهر العلاقة الرحيمة التي أرادها الله معهم والتي وصفت بدقة في القرآن.
لقد كان الهدف الخفي لتلك المرويات إطفاء النور القرآني واستبداله بدخان الأسطورة والخوف والرعب، حتى تغلق العقول عن التفكير، ويستبدل السؤال بالاذعان، والبحث بالتلقين.
حين قلبت هذه الحقائق القاسية في ذهني وأنا أمشي من المسجد إلى البيت، كدت أن ألف راجعا لأوقظ ذلك الخطيب من غفلته وغيه، وأجهر أمام الناس ـ أو من تبقى منهم ـ بالقول: هل من المنطقي في القرن الواحد والعشرين أن نبقي الناس جامدين في حقبة سلاطين زوروا مرويات ـ ضمن الآلاف منهاـ ليطردوا القرآن من قلوبهم ويمنعوا الأجيال من أن تطلب حقوقها وكرامتها ومساواتها؟ كيف يرتكب هذا الجرم في حق الدين ليتساوى مع الأعداء المتآمرين؟ وكيف يظل هذا الموروث إلى اليوم راسخا هكذا وكأن قرونا من الزمان لم تنقض؟




