
تعيش موريتانيا اليوم لحظة فارقة تتشابك فيها الصراعات الخفية مع الانفلات الرقمي، حيث تحولت التسريبات إلى أداة صراع تُستخدم بقدر ما تُستخدم القرارات الرسمية، وصارت الصفقات العمومية، وملفات الموظفين السامين، والقرارات الإدارية، مادةً يومية للتداول العام، في مشهد يعكس حجم التوتر داخل منظومة الدولة. لم تعد التسريبات مجرد خطأ في التداول أو تسريبًا عرضيًا، بل غدت أقرب إلى رسائل سياسية تُوجَّه بوعي، وتوقيت محسوب، وانتقائية لا تخطئها العين، حين يظهر ملف معين مباشرة عقب اتهام يطال جهة أخرى، في ما يشبه الهجوم المضاد بالسلاح ذاته.
هذه الفوضى لم تَبْقَ حبيسة الصفقات والدوائر الإدارية؛ بل امتدت لتلامس أعلى هرم الدولة، في ظاهرة غير مسبوقة. فقد وصل منسوب الانفلات حدَّ المساس بالرئيس نفسه، عبر حملات منسقة أو مرتجلة، تتنقل بين الإشاعة والتحليل السطحي والاتهام المباشر، إضافة إلى جرّ المؤسسة العسكرية والأمنية إلى ساحة الجدل، وهو ما يشكّل سابقة خطيرة تكشف حجم التسيّب في الفضاء الرقمي، حين تُستعمل أكثر مؤسسات الدولة حساسية كمادة للاتهام أو التشكيك أو ربط الأحداث دون بيّنة أو دليل، فقط لأن المزاج العام في الشبكات الاجتماعية يسمح بذلك.
هذا الانزلاق نحو نشر الاتهام، واستباق الأحداث، وإصدار الأحكام المسبقة خلق بيئة مثقلة بالريبة، تُشهر فيها الاتهامات كما تُنشر الأخبار، وتُستباح حياة الأشخاص الخاصة كما تُستباح وثائق الدولة. ومع تداخل الإعلام التقليدي مع وسائل التواصل الاجتماعي، صارت الحدود بين الخبر والاتهام، وبين التحليل والشائعة، شبه منعدمة. الإعلام الذي يُفترض به أن يكون سلطة للتحقق، يتحول أحيانًا — بقصد أو دون قصد — إلى منصة لإعادة تدوير ما يُنشر من تسريبات، بينما تعمل الشبكات الاجتماعية على تضخيمها دون تفريق بين وقائع ثابتة واتهامات بلا أساس.
إن الارتباك الناجم عن هذه الديناميكية جعل المجتمع المدني نفسه جزءًا من أدوات الصراع، بدل أن يكون عنصر توازن وضميرًا رقابيًا. تُستعمل بعض المنظمات والصفحات كأدوات ضغط، تُنتقى فيها الأسماء والملفات بعناية، وتُدار الحملات ضد أشخاص معيّنين في لحظات محسوبة، في طريقة توحي بوجود أيدٍ خفية تحرك المشهد وتعيد تشكيله كلما احتاجت إلى ذلك.
ومع كل هذا التداخل، تتوسع رقعة الفوضى الرقمية لتشمل تكاثرًا غير مسبوق للمنظِّرين في كل المجالات، من السياسة إلى الدين، ومن الطب إلى الفلك، إضافة إلى ازدهار خطاب الكراهية، والعنصرية، وصراع الأعراق، الذي بات يملأ الصفحات ويعيد إنتاج تجارب مأساوية مشابهة لما عرفته رواندا وغيرها من البلدان التي دفعتها الكلمة المحرّضة إلى حافة الحرب.
لقد خرجت الأمور عن نطاق السيطرة، وتجاوزت حدود الأخلاق والدين، بحيث صار المجتمع يواجه موجة من التشهير والتسقيط والانتهاكات تمس كل الفئات: علماء، أئمة، مسؤولين كبارًا، رجال أعمال، وحتى مواطنين بسطاء. وتشكّلت ثقافة جديدة تتعامل مع خصوصية الإنسان وكأنها مادة للعرض، ومع سمعته كأنها رأي قابل للتداول، ومع حياته كأنها وثيقة يمكن نشرها في أي وقت.
إن الربط بين التسريبات والانتقادات والمضامين التشهيرية يكشف أننا لسنا أمام ظواهـر منفصلة، بل أمام منظومة فوضوية واحدة تُعيد إنتاج نفسها كل يوم. فكل تسريب يتحول إلى اتهام، وكل اتهام يتحول إلى حملة، وكل حملة تتحول إلى تشهير، وكل تشهير يجد طريقه إلى مؤسسات الدولة، فيدوخ المجتمع بين الشائعة والحقيقة، وبين الصراع الخفي والحرب المفتوحة في فضاء بلا ضوابط.
وهنا تتجلى الحاجة الملحّة إلى ردع قانوني صارم يضع حدًا لهذا الانفلات قبل أن يفقد المجتمع ما تبقى من توازنه، وقبل أن يتحول الفضاء الرقمي إلى سلطة بديلة لا تخضع لقانون ولا تحترم قيمًا. فالمجتمعات لا تُبنى على الإشاعة ولا تقاد بالتسريبات، ولا تستقيم حين تصبح المؤسسات الحساسة موضوعًا للتلاعب، والرئيس نفسه هدفًا لحملات، والدولة أسرارها متداولة بين الصفحات.
إن إنقاذ المشهد اليوم يبدأ من إعادة الاعتبار للقانون، وتحقيق التوازن بين الحرية والمسؤولية، وحماية المجتمع من خطاب الكراهية والتشهير، حتى تستعيد الدولة هيبتها، ويستعيد المجتمع مناعته، ويعرف الجميع أن حرية التعبير ليست حرية الهدم، وأن الكلمة حين تنفلت من ضوابطها قد تهدم ما تبنيه الأجيال.
عالي أحمد سالم الملقب البو




