قبل أربعة أيام، وتحديدا صبيحة الأحد الثامن والعشرين من إبريل 2019، رحل عن دنيانا بصمت ودون ضجيج، رجل دولة، من طينة خاصة تستدعي التوقف عنده ولو لحظة، ليس لذكر مناقب الرجل وفق قاعدة ( اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم)، فتلك مهمة سأتركها لغيري ممن عرف وعاشر المرحوم عن قرب أكثر مني، بل إنني سأكتب عن الراحل، لسبب مغاير تماما عما درجت عليه الكتابات التأبينية في المجتمع الموريتاني. هذا لأني رأيت في الراحل نموذج رجل الدولة الموريتاني الذي تمنيته ولم أجده في معظم رجالات دولتنا الفتية، خلال العقود الخمسة التي عشتها. ولِد الراحل محمد ولد بوبه عام 1945، وتلقى تعليمه الجامعي في أواسط ستينات القرن المنصرم بين الجزائر وليبيا والمغرب، وعمل طويلا ولعقود في السلك الدبلوماسي الموريتاني حتى تقاعده في العام 2005. في كلا من الصين والمغرب والجزائر وسوريا والعراق وليبيا والنيجر. كغيره من رجالات مرحلة الاستقلال كان يؤمن بالدولة المدنية، ويتطلع بشغف للمساهمة في بنائها، مع غيره من نخبة موريتانيا الصاعدة. المرحلة المدنية من عمر الدولة الموريتانية (1957 – 1978)، تميزت بالعديد من الأطر المؤمنين أشد الإيمان بالدولة ويملؤهم الحماس والتوقد للمساهمة ببناء موريتانيا الحديثة، ورغم شح الإمكانيات وتواضع الموارد حينها إلا أنهم حققوا نجاحات لا يستهان بها، وقد تمايز هؤلاء إلي فئتين رئيسيتين هنا: 1. الحداثيون: المنبهرون بفرنسا ونموذجها التنموي حد التماهي، هؤلاء يرون أن تحديث موريتانيا لن يتم إلا عبر إحداث قطيعة ابيستمولوجية مع ماضي التخلف بكل أنساقه وبناه المعرفية المشكلة للعقلية السائدة، والتي يرون فيها معوقات جدية لأي مسعي تنموي وتحديثي للدولة الوليدة، وعرف هؤلاء بعدائهم الشديد للنسق الاجتماعي لبنية المجتمع ممثلا في السلم القبلي الصارم وغير القابل للتشظي، كما كان هؤلاء من أشد دعاة تفتيت التراتبية الاجتماعية لذلك السلم الاجتماعي، الذي تتحدد فيه مكانة الشخص الاجتماعية منذ الولادة، في مجتمع يعلي من قدر وأهمية الحسب والنسب. وعرف الحداثيون الموريتانيون بتوجهاتهم الليبيرالية ذات الطابع التوليتاري، وكانوا أقل إهتماما بالدولة الديمقراطية، لأنهم يرون أن الدولة الشمولية القوية هي الاقدر علي نقل المجتمع من البداوة إلي التحضر. وقد فشلت معظم أطروحات فئة الحداثيين الموريتانيين، لأنها اصطدمت بالعقلية السائدة، التي وقفت ككابح وسد منيع في وجهة الأفكار التغريبية التي لا تتواءم مع ميراث الأسلاف، ومرتكزات التراث القيمي للمجتمع. 2. التقليديون: المتمسكون بكل المنظومة القيمية للمجتمع، بما فيها من عادات وتقاليد يجافي بعضها الفطرة السوية وتخالف صريح التعليمات الدينية الإسلامية: كنظام الرق والتراتبية الاجتماعية الصارمة للنظام القبلي، الذي يجعل الناس في مستويات تتفاوت في المنزلة حسب الأصول العرقية، فوضع أولاد لخيام لكبارات في أعلي السلم الاجتماعي، والبقية ظلت تتدني علي طول السلم الاجتماعي، وتم وضع طائفة من المنبوذين في ادني السلم وسماهم أزناكة. فئة الأطر التقليديين في المجتمع الموريتاني كانت الفئة الغالبة التي تعايشت مع منظومة المجتمع، المتخلفة في معظمها، وهي التي شكلت إمتدادا للنخية السياسية والثقافية للنظم العسكرية التي حكمت البلاد منذ 1978 حتى الآن. فئة الحداثيون الموريتانيون عانت من العزلة والاغتراب الداخلي في المجتمع، كما عاشت التشظي الوجداني لعدم قدرتها علي المواءمة بين ما تؤمن به وبين الواقع الذي تعيشه، في حين كرست فئة التقليديين التخلف وجذرت المفاهيم الريعية للدولة، وعجزت الفئتان حتي الآن عن إقامة الدولة المدنية التي يتمناها الموريتانيين. وفي هذا الخضم ظهرت فئة قليلة من الأطر الموريتانية التي جمعت بين محاسن الفئتين، فكانت مشعل تنويري وحضاري، دون أن تتخلي عن الجميل من قيم منظومة المجتمع، وبالمقابل كانوا أبناء شرعيين لعصرهم وقيمه الحداثية والتنويرية. ويأتي المرحوم محمد ولد بوبه ضمن هذه الشريحة، فقد ربطت الراحل صداقة بالمرحوم والدي منذ أواسط السبعينيات حتى أواخر ثمانيات القرن المنصرم، وكان والدي يتحدث عنه كثيرا أمامنا. وحين عرفت الراحل في السنوات الأخيرة عن قرب، وتحدثت معه مليا، بدأت أتقصي أخباره، وأدركت من ساعتها أنني حيال رجل من طينة رجال الدولة الاستثنائيين. يري محمد ولد بوبه أن موريتانيا تحتاج إلي رجال دولة يدركون مكامن الجمال في التراث الموريتاني للبيظان ولكور والحراطين، فيثمنونه ويعملون علي تطويره وفي نفس الوقت يكونون مدركين لأهمية النظم المدنية الحديثة التي أثبتت التجارب أنها الأفضل لإدارة الشأن العام الموريتاني! هذا الرأي تحديدا كان بداية إهتمامي بالراحل محمد ولد بوبه. شكل الراحل ولد بوبه، نموذجا فريدا لثقافة مجتمعه فهو حافظ لكتاب الله ومحدث بارع، وفقيه وضليع بالألسنيات، كما كان منزله في جميع الدول التي عمل بها كدبلوماسي، بمثابة "الدار الكبيرة" للموريتانيين، يستقبل فيها ضيوفه هاشاً باشاً والابتسامة لا تفارق محياه، فضلا علي أنه كان علي علاقة وثيقة بجاليات موريتانيا في الدول التي عمل بها، وفي سبيل حل مشاكلهم كان في كثير من الأحيان يتجاوز الشكليات الإدارية والقانونية لتسهيل أمورهم. وبالمقابل كان إبن عصره، يعيش الحداثة بكل تجلياتها، وقد قام بتربية أبنائه علي مثل وقيم المجتمع، وفي نفس الوقت عمل علي توعيتهم بضرورة أن يكونوا حداثيين ومتمدنين. عرف المرحوم بعفة اللسان واليد، وكان زاهدا في السياسة وفي المناصب، وهذا ما جعله يبتعد عن دائرة الضوء طيلة حياته، وقد إكتفي بعمله الدبلوماسي واعتذر بلباقة عن المناصب الوزارية، أو الحزبية التي عرضت عليه أكثر من مرة! طيلة مشواره في العمل. كلما التقيت به كنت أحرص علي الاستماع إليه وهو يتحدث عن الأحداث الجسام التي مرت بها موريتانيا والإقليم والمنطقة العربية طيلة ثلاثة عقود، كان المرحوم شاهدا علي كواليس بعضها. وقد اتفقت معه أواسط العام 2016 علي كتابة مذكراته تلك،إلا أن القدر شاء غير ذلك. برحيل محمد ولد بوبه تنطوي صفحة زاخرة من مآثر زمن موريتانيا الجميل، ومعه ضاع سفر تاريخي قيم لمجمل الأحداث الوطنية غير المدونة، والتي كان يمتعنا بها المرحوم في سرد أخاذ ومتماسك. تجربة الراحل ولد بوبه في حقل العمل الدبلوماسي تجربة عميقة الغور وباذخة الثراء، يفترض أن تكتب لتبادل الخبرات بين الأجيال، للاستفادة منها، فضلا علي ضرورة تكريمه من قبل الدولة الرسمية حتى بعد مماته، لتبرهن موريتانيا علي أنها لا تنسي جهد أبنائها. ورغم الحزن الذي يعتمل في صدري، إلا أن ما يواسيني أن من يعرفونه يحسون بالفخر لمسيرة عطاءه الزاخرة. رحم الله الشيخ الوقور، والمربي الفاضل، محمد ولد بوبه، وغفر له، واسكنه فسيح جناته، وألهمنا وذويه جميل الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون. د.الحسين الشيخ العلوي 2 مايو 2019 / تونس.