سيداتي ولد آبه .. نجم من الرعيل الأول يأفل قبل عشرة أيام رحل المغني السنغالي سامبا ديابري سامب عميد الفنانين في السنغال الذي صنفته اليونسكو «كنزاً بشرياً حياً» عام 2006 ، نعاه الرئيس السنغالي ماكي صال في تغريدة له قائلا:«خسرت السنغال أحد أشهر أبنائها الحاج سامبا ديابره سامب الذي رفعته اليونيسكو إلى مصاف الكنز البشري الحي وهو ملك التدينيت». واليوم في المنتبذ القصي يرحل صنوه وشرواه عميد الفنانين الموريتانيين ملحن نشيد الاستقلال الفنان الكبير سيداتي ولد آب ، يرحل في صمت ، لابواكيَّ له وهو الأجدر بأن تصنفه اليونسكو «كنزاً بشرياً حياً» وأن يغرد رئيس البلد بنعيه وأن تتشح الأرض غِبّ رحيله بالسواد. من الرشيد 45 حيث الطلل الناطق بالشعر والشجو وحيث الجمال و أكمام النخيل والقصر المشيد وحيث المتيم المعلل بالنسيم وبالنشيد.. انطلق الفتى سيداتي ول ألفه ول آبه ول الجيش ول سدوم ول انجرتو صاحب الصوت الجميل واليد الماهرة فى العزف وهو فتى يافعا من حلة "أولاد سيد الوافي" متجها إلى الجنوب الغربي على خطى ول آدبه.. إحيَّاكْ و أشْوِي وتيمجيجات و الحرج وأم اطبول و أشاريم وتنيامن وأرْجِ و وإدوجن و أشاريم وانواشيد ولحويطات. أوغل إلى الجنوب الغربي ليصل تخوم المجرية بموقعها الجميل بين الكثبان الرملية و السلسلة الجبلية. اجتاز الجبل الأشم "أشتف" الذي يرتفع 700م من علي سطح الأرض حيث تراءت له "انبيكه" بعد المجرية بجمالها الخلاب و بواديها الجميل " تامورت أنعاج " وخزان "كانكارا" وحوض "مطماطا " ذي التماسيح البحرية العائشة على مياه الأمطار المنصبة من أعلى جبال تگانت. هناك اطبت الفتى سيداتي انبيكه فشدا وغني وتزوج بابنة أيده منينه التى تنحدر من سرة فنية لاتقل عراقة فى الفن عن أسرته وفى "عريظ" شمال انبيكة سنة 1958رزق بابنة سماها " اللُّوله " ثم آذن بالقفول بالزوجه والعيال من التامورت إلى شمال شرق تگانت إلى الرشيد وقصر البركة حيث حلة أولاد سيد الوافي. ذاع بين الناس ذلك الصوت العجيب كأنه قادم من السماء ، وسارت بذكره الركبان. يتذكرالفنان سيداتي ولد آبه أن أول أغنية أداها للإذاعة كانت سنة 1958 حين أتى إلى مدينة تجگجة " ديّارا " يبحث عن جمل ضال فطلب منه الوالي الفرنسي البقاء حتى يسجل شريطا للإذاعة متعهدا له بإرسال من يبحث له عن الجمل وكانت الترجمان وقتها بينه وبين الوالي كما يقول هو أحمد ولد محمد صالح. وحين تم اختيار قطعة الشيخ باب ولد الشيخ سيديا نشيدا وطنيا تمم تسلمها للملحن الفرنسي من أصل أوكراني توليا نيكيبروتزكي "Tolia Nikiprowetzky" في اندر فاستدعى الفنان سيداتي لتلحينها محليا في اظهورت موسيقى البظان وهو يتمثل "مارش" الصنادرة ليكتبها توليا ب "نوطة" صامتة لتصلح لنصرة الإله وتصلح "لول داداه كاس اندر". وحين عين أحمد ولد محمد صالح واليا على تگانت 1960 قام بإرسال سيداتي إلى انواكشوط لينعش برامج الإذاعة الوطنية ، فشارك رفقة المختار ولد الميداح وسيد أحمد البكاي ولد عوّ فى انعاش برامج الإذاعة ، ثلاثي الأبعاد هذا يصفه المؤرخ محمد ولد مولود ولد داداه بأنه استطاع بفنه " أزوان " أن يخلق هوية وطنية جامحة معتزة بخصوصيتها ورافضة الذوبان فى أي فضاءات أخري ، في ظل الأطماع التى تناوشت المنتبذ القصي. سحر سيداتي بصوته أهل المنتبذ القصي فكانوا يتسمرون غداة الاستقلال في حِلَق حول "tourne-disques" التى كانت أقراصها السوداء المثقوبة تدور على سطح ذلك الجهاز الكبير تصدح بصوت سيداتي قادما من خلف الغيوم. وبعدها "اترانزيتورات " الأكثر انتشارا فكان الناس يخشعون وهم يسمعون صوت سيداتي ، حتى إن راعيا كان لدى الشيخ يعقوب ولد الشيخ سيديا أهمل وظيفته من شدة ولعه بصوت سيداتي المنبعث من الراديو ، ويقال إن من كرامات الشيخ يعقوب أن جعل الله لذلك الراعي راديو في صدره تبث أغاني سيداتي على مدار الساعة. أدركت ذلك الراعي وهو يتجول في نواكشوط بعد أن فقد الراديو البث الحي وكنا نسمع ما يشبه "اتشنشين" وكان هو يغني بصوته الجميل أغاني سيداتي. غنى سيداتي الابتهالات والمدائح النبوية ، غنى للحب للوطن للاستقلال لحن وغنى النشيد الوطني غنى للأوقية.. وذات هول شجي عبر الأثير كتب له القاضى بِيَّ بن سليمان الناصرى: ألا بلغنْ سيداتِ إن كنت غاديا :: رسالة قاض بالعـيون دعى بيا أشاعر موريتان أرقـتَ مقلتى :: وذكرتنى عـهد الصبا وشبابيا بترداد بيت للملوح موهنا :: دعونى دعـــونى قد أطلتم عذابيا فكرره لى وهنا ببيـگِ بلحنكم :: فمن لحنكم أشفى همومى ودائيا حين حدثنا الإمام الأكبر بداه ولد البصيري رحمه الله بقصة الشيخ أحمدو ولد أحمذي مع الفنان لعور ولد انگذي ، قال معلقا: هول الرجل للرجل دون آلة مافيه ش وهو ما شهدته بين شيخي ولعور ، لجاكم سيداتي گولولو يطرح الآلة وايغنيلكمْ.. قلت لصديقي معلقا: لمام ما يعرف عن سيداتي عگبو سدوم وكان سدوم ولد أيده يومها في عصره الذهبي. سيداتي هو أول فنان طور موسيقى البظان بإدخال آلة الجيتار ، وهو أول فنان تغنى عبر الأثير بروائع الشعر العربي ، فهو ينتمي إلى ثقافة عالمة ويأوي من الذوق إلى ركن شديد ، فغنى للبرعي: تجلتْ لوحدانية ِ الحقِّ أنوارُ:: فدلتْ على أنَّ الجحودَ هوَ العارُ وأغرتْ بداعي الحقِّ كلَّ موحدٍ :: لمقعدِ صدقٍ حبذا الجارُ والدارُ وعنى لابن الفارض سلطان العاشقين حديثُهُ، أوحَديثٌ عَنهُ يُطرِبُني :: هذا إذا غابَ أوْ هذا إذا حضرا كلاهُما حَسَنٌ عندي أُسَرّ به :: لكنَّ أحلاهما ما وافق النَّظرا وغنى لغيلان ذي الرمة: دنا البينُ منْ ميٍّ فرُدَّتْ جِمالُها :: هاجَ الهوى تقويضُها واحتمالُها وقدْ كانت الحسناءُ ميٌّ كريمةً :: علينا ومكروهاً إلينا زيالُها دَروجٌ طَوَت آطالَها وَاِنطَوَت لَها :: بَلاليقُ أَغفالٌ قَليلٌ حِلالُها فَهذي طَواها بُعدُ هذي وَهذِهِ :: طَواها لِهذي وَخدُها وَاِنسلالُها وغنى لقيس بن الملوح: دَعوني دَعوني قَد أَطَلتُم عَذابِيا :: وَأَنضَجتُمُ جِلدي بِحَرِّ المَكاوِيا دَعوني أَمُت غَمّاً وَهَمّاً وَكُربَةً :: أَيا وَيحَ قَلبي مَن بِهِ مِثلُ ما بِيا وغنى للإمام الشافعي: بَلَوتُ بَني الدُنيا فَلَم أَرى فيهُمُ :: سِوى مَن غَدا وَالبُخلُ مِلءَ إِهابِهِ فَجَرَّدتُ مِن غَمدِ القَناعَةِ صارِماً :: قَطَعتُ رَجائي مِنهُمُ بِذُبابِهِ فَلا ذا يَراني واقِفاً في طَريقِهِ :: وَلا ذا يَراني قاعِداً عِندَ بابِهِ غَنيٌّ بِلا مالٍ عَنِ الناسِ كُلِّهِم :: وَلَيسَ الغِنى إِلّا عَنِ الشَيءِ لا بِهِ وغنى ليزيد بن معاوية: ألا فاسقني كاسات خمر وغنِّ لي :: بِذِكْـرِ سُلَيْمَـى وَالرَّبَـابِ وَتَنَدمِ وَإيَّـاكَ واسمَ العَـامِـرِيَّـةِ إِنَّنِـي :: أَغَـارُ عَلَيْـهَا مِـنْ فَـمِ المُتَكَلِّـمِ أَغَـارُ عَلَـى أَردافِهَـا مِنْ ثِيَابِهَـا :: ِإذَا لَبَسَتْـهَا فَـوقَ جِسْـمٍ منعم وغنى لابن دأب: دَعوني لما بي وَانهَضوا في كَلاءةٍ :: من اللهِ، قد أيقَنتُ أن لَستُ باقِيَا وَأن قد دَنا مَوتي وحانَت منيّتي، :: وَقد جَلَبت عَيني عليّ الدوَاهِيا أمُوتُ بشَوْقٍ في فُؤادي مُبرِّحٍ :: فَيَا وَيْحَ نَفسِي مَن به مثلُ ما بيَا وغنى للأديب محمد ولد ودادي رحمه الله: ألا فاربعنْ بالربع من سفح تندمكِ :: وفي كل ربع من مرابعها فابكِ فنزراً به صون الدموع كأنه :: تَحَدّرُ منظوم الجمان من السلك لئن كان في الأيام ملهى ومشتهى :: ففيها ، وإلا عدّ عنهن للنسك لعل مُضاعَ العمر في اللهو والصبا :: يبَدله حسنا إلهك ذوالملك وغير ذلك من روائع الشعر لم يكن سيداتي مجرد نسمة في تعداد سكان هذه البلاد ، كان حضارة ، كان اجتماعيا أنيقا مرهف الحس رفيع الذوق ذا أنفة محببا كريما طلق المحيا حسن الأخلاق. ولو كانت اليونسكو أنصفته لصنفته " كنزا بشريا يمشي على قدمين" كان تراث أمه احترق وبنيان قوم تهدم، كان شاعرا أنتج روائع من الشعر الحساني لاتقل جودة عن شعر ولد آدبه وأضرابه ، وأحيا من ألحان وأشوار وأوزان الترات مان كان سيضيع لولاه. تعازينا لجميع الموريتانيين فمَا كانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحِدٍ :: ولِكَنّهُ بُنْيَانُ قَومٍ تهَدَّمَا. تغمده الله بواسع رحمته ولاغبّت ديمة الرحموت جدثا حله. كامل العزاء