"حليمة" هي زوجة حاتم الطائي الذي اشتهر بالكرم، كما اشتهرت هي بالبخل، فكانت إذا أرادت أن تضع سمناً في الطبخ، ارتجفت الملعقة في يدها، فأراد حاتم أن يعلمها الكرم فقال لها: إن الأقدمين كانوا يقولون أن المرأة كلما وضعت ملعقة من السمن في طنجرة الطبخ زاد الله بعمرها يوماً، فأخذت حليمة تزيد ملاعق السمن في الطبخ، حتى صار طعامها طيبًا وتعودت يدها على السخاء!
ولما مات ابنها الوحيد الذي كانت تحبه أكثر من نفسها، جزعت حتى تمنت الموت، وأخذت لذلك تقلل من وضع السمن في الطبخ حتى ينقص عمرها وتموت فقال الناس:
"عادت حليمة إلى عادتها القديمة".
تذكرت والشيء بالشيء يذكر (على قولة أستاذي أحمد المقري في مؤلفه نفح الطيب) تذكرت تِهِ القصة وأنا أقرأ خبرا مفاده أنا زمرة من زملائي الطلبة تم الاعتداء عليهم اليوم من قبل الشرطة الوطنية بعد وقفة قاموا بها أمام وزارة التعليم العالي للمطالبة بإنصاف ٦٠٠ طالب حرموا من التسجيل بفعل قرار المجلس الأعلى للتعليم القاضي بإقصاء كل من يجاوز عمره ٢٥ عاما من الولوج للجامعة .
سبق وتحدثت في مقال مطول (وتحدث كثر) عن لا مشروعية المقرر والقرار، وعن ضرورة التراجعة عن الخطوة، لكن ما أثارني مجددا هو تجدد القمع والتنكيل والسحل وتكميم الأفواه.
صحيح لم يتغير الوزير لكن خِلت - ولا أزال - أن السياسة العامة للدولة قد تغيرت، مع قدوم برنامج انتخبه الشعب على أنه يضع التعليم في أولوياته .
تذكرت أيضا -واعذروني على النسيان فأنا خريج إحدى جامعتي التعذيب العالي الوطني ولا عتب على خريجيهما إن كانوا ضعيفو الذاكرة كما تعلمون- تذكرت أن بلادنا انتخبت -هنيئا لنا- عضوا في هيئة من كبريات هيئات حقوق الإنسان في العالم هذا الأسبوع.
وعلى شكل عربون هدية تهنئة -وكل إناء بما فيه يرشح- أجد من المناسب تقديم بلاغ لفخامة الرئيس ومعالي الوزير والتماس من السادة النواب وأصحاب المعالي المانحين لذلك المركز الذي انتخبنا فيه:
فخامة الرئيس معالي الوزير:
نصت المادة العاشرة من الدستور الموريتاني أن الحرية لا تقيد إلا بقانون، كما ضمنت للمواطن وكفلت حق التجمهر والانخراط في النقابات والجمعيات التي يرغب المواطن اختيارا في الانخراط والعمل داخلها، نفس الحق ضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والميثاق الإفريقي الحقوق الإنسان والشعوب الذين تصادق عليهما بلادنا .
السادة البرلمانيون:
هذه الصياغة الفضفاضة للمادة الدستورية حين الحديث عن الاستثناء (الحرية لا تقيد إلا بقاونون) جعلت الحريات النقابية في موريتانيا حبرا على ورق بحكم النصوص المخصصة لعموم مبدأ حق المواطن في ممارسة حرياته العامة.
يظهر ذلك بجلاء إذا ما رجعنا للقانون الجنائي الوطني في المادة 101، وكذلك القانون رقم 008/73 المتضمن قانون الاجتمعات العامة الصادر 1973، وكذلك نفس الشيء بالنسبة للمرسوم 060/37 القاضي بتنفيذ القانون المتعلق بالتجمعات العامة.
حيث يصبح المبدأ الدستوري في كل منها مجرد أصل لا صلة له بفرعه وتصبح حرية المواطن في خطر.
حتى إن الطلاب الذين يتظاهرون اليوم للمطالية بالتسجيل -وكل المتظاهرين- معرضون لإطلاق النار تحت طائلة عدم المسؤولية حسب التعميمات والمراسيم التي من ضمنها التعميم رقم: 570 GND الصادر 1962 والذي يجيز للدرك الوطني استخدام الأسلحة النارية ضد التجمعات إذا طلبت منه السلطات الإدارية ذلك.
هذا الخيار والتصرف وإن كان مستبعدا دليل واضح على أن الدستور أوجد حرية لكن نفوذ السلطات التنفيذية الموجَد بالقوانين النظامية والعادية يبقي الحريات العامة من خلال ممارسة السلطة التنفيذية لصلاحياتها الواسعة مجرد شعارات لا غير .
فأوجِدوا مشكورين قانونا يحمي الحريات حقيقة لا ادعاء، وألغوا قانون الجامعيات والتجمعات الحالي واستبدلوه بغيره حتى نكون بخير .
قبل أن أختم نحن أيضا يخذلنا القانون الجنائي الوطني حيث لا توجد فيه أي إشارة أو تصريح بمبادئ من قبيل:
- الشرعية القانونية للقمع
- التناسب بين القوة المستخدمة وخطر التجمهر
- مبدأ المساءلة
- رغم أن هذه المبادئ هي الضمانات القانونية الوحيدة ضد الاستخدام المفرط للقوة .
الآن يمكن للجميع أن يفهم لماذا ضرب اليوم طالبان في وقفة الوزارة على الرأس حتى فقدا الوعي وفي الأسبوع القادم سيكسرون من خلاف .
إلى ذلكم الحين الوطن يئن والطالب نبضه.
فأنقذوا التعليم .