يُخيل من الزوبعة الإعلامية التي أثارها الكتاب، ومن التعليقات يوم تقديمه، أن المؤلف أساء إلى قبيلة إدوعيش وحدها، والحق أن الكتاب كان أشد وطأة على قبيلة كنته من إدوعيش، والظاهر أن المؤلف حاول أن يكون منصفا في عرض الوقائع والأحداث، ولكنه اعتمد على رؤية فردية لا تقرها كنته، ولم تقرها إدوعيش، فصور الكتابُ كنته بمظهر الضعيف المستكين، معتمدا على أحداث صغيرة تتعلق بفرع واحد منها، وحين وصل إلى المعركة التي انتصرت فيها انتصارا باهرا قلل من شأن النصر، وعد بعضه جزئيا، وبعضه غير حاسم، ثم ذهب إلى الفرع الذي تحمل عبء المعركة(أولاد بوسيف)، فاتهمه بالهزيمة، وجعل بلاءه لفروع أخرى لم يرد بعضها ساحة المعركة إلا بعد انقشاع غبارها، وخمود أوارها.
ومن جهة إدوعيش فقد حاول الكتاب إنصافهم، لكنه حين وصل إلى المعركة التي انتصروا فيها "فرع الكتان" منح بلاءهم ـ كذلك ـ لجماعة قليلة كانت متحالفة معهم، معتمدا على رواية هالكة لبيير بونت، ولو أُشير إلى الرواية في الهامش، لكان الضرر أخف. ولكن الكتاب لم يفعل، فصار القارئ يحسب أنه أمر بُرم عن قصد، ولا أراه كذلك.
ثم إن اعتماد المؤلف في جل الناحية الشفهية على رواية فرع واحد من كنته كما يتجلى من الإسناد، وعلى بعض المصادر التي لا تعرف المنطقة معرفة جيدة، كل أولئك كان وراء ما في الكتاب من اختلاف كبير، فوردت الأخطاء حتى في أسماء قتلى كنته الذين اعتمد المؤلف في بعضهم على رواية سيد أحمد الأمير في تحقيقه لحوادث السنين، وهو أمر غريب جدا لأن عشائر هؤلاء موجودة، ولو تواصل معهم المؤلف لتجنب هذه الأخطاء، ثم إن رواية سيد أحمد الأمير عن حروب المنطقة تعاني من اختلاف كبير، واللوم عليه أقل لأنه ليس من أهلها، وقد يتكلف في التواصل مع جميع الأطراف ما لا يتكلفه من كان بمنزلة المؤلف، ثم إن رواية سلفه العالم المؤرخ المختار بن حامدن متكئة ـ في جل جانبها الشفهي ـ على مصدر واحد هو إدوعيش (بكار ول سيد أحمد لبات)، ومن ثم فهي تنظر إلى حروب كنته باعتبارها حروبا داخلية لإدوعيش، وقد صحح سيدأحمد الأمير بعضها (معركة انودر:1821، حوادث السنين، ص:348)، وبقي بعض.
ولذلك تجد المختار بن حامد حين تحدث عن معركة "قصر البركة" سماها "لحنوك" وهو أمر في غاية الغرابة، لأن لحنوك لم تحدث عنده إلا مناوشات بين بعض الفرسان، والأغرب من ذلك أنه تحدث عن معركتين من معارك قصر البركة، وسكت عن الثالثة؛ تحدث عن معركة كنته واشراتيت، ومعركة أبكاك وأحي بن عثمان، وسكت عن معركة كنته وأبكاك.
أما بالنسبة إلى هذا الكتاب فلدي بعض الملاحظات التي يمكن أن تسهم في تقويم ما فيه من اختلال، وكنت أفكر في عرضها على المؤلف لكني آثرت نشرها لأن الكتاب نشر، ومن ثم فينبغي ـ من الناحية العلمية ـ أن تعرض مراجعاته معه ليستنير بها كل قارئ، وتنقسم هذه الملاحظات إلى أربعة أقسام:
1 العموم الذي يحتاج إلى التخصيص، 2 ـ روايات متناقضة، 3 ـ حكايات تحتاج إلى مراجعة، 4 ـ أخطاء جزئية.
1 ـ العموم الذي أريد به الخصوص:
لقد اختزل الكتاب القبيلة(كنتة) في عشيرة واحدة (أولاد سيد الوافي=أولاد سيدي ببكر)، ولا ضير إن اقتصر المؤلف عليها، فهي عشيرة المجاهد محمد المختار، وهي الأولى بالذكر حين الحديث عنه، لكن الكتاب صار يتحدث عنها بصيغة العموم، الذي لا يوحي بالخصوص المقصود، حيث بدأ الفصل الثاني من الكتاب بعرض سيرة والد محمد المختار، وهو الحامد بن امينوه المعروف بالسلم والمهادنة، ويتصور من لا يعرف القبيلة حق المعرفة أن الحامد هذا كان زعيما لجميع عشائر كنته!، وأن القبيلة كانت تسالم إن سالم الحامد، وتحارب إن حارب!، والمؤلف يعلم وقد أشار إلى ذلك في بعض الهوامش، وجميع الكنتيين يعلمون أن سلطة الحامد وأجداده من قبل لا تتجاوز عشيرته الأقربين.
وسأضرب أمثلة تبرز هذا العموم الغريب لمن لم يقرأ الكتاب، لقد بدأ الفصل الثاني من الكتاب بهذه الفقرة: "توالت الرئاسة بعد امينوه في أبنائه حسب سنهم، فتبدأ بالكبير منهم إلى أن يموت ثم تاليه، فكان الأول عبد الرحمن ثم سيدي الأمين فأحمد الذين قادوا الحروب، ومات فيها أولهم عبد الرحمن في معركة شكار كادل، ص:8"
ولو أن المؤلف قال "توالت رئاسة أولاد سيد الوافي بعد امينوه أو رئاسة أولاد سيدي ببكر"، لما كانت هناك مشاحة، أو لضاق ميدان الخلاف، لكن عبارة الرئاسة تُخيل لمن لا يعرف تفاصيل القبيلة أن أبناء امينوه كانوا زعماء لجميع عشائر كنته، أو أن زعامتهم على الأقل كانت تمتد إلى أولاد سيدي حيبل المجاورين لهم في تگانت، أو إلى أولاد بوسيف الذين ينتجعونها زمن الحروب.
وما قيل في عبارة "توالت الرئاسة" يمكن أن يقال في عبارة "قادوا" الحروب، فهي تحتاج إلى مراجعة أيضا، لأن معركة شگار(1822) شارك فيها أولاد سيدي حيبل، وأولاد بسيف البيظ، وقدم إليها أولاد بسيف الخظر من تجنين في رحلتهم الشهيرة "أم أشيشي"، ولا يمكن لأي طرف من الأطراف أن يدعي قيادتها.
وقد كرر الكتاب هذا العموم في الصفحة نفسها فقال: "وما إن تولى الحامد الأمر حتى بدأ بتنفيذ سياسته لإخراج قومه من الصراعات التي كانت مستعرة بين قبائل تگانت والعصابة والحوض وآدرار(إدوعيش، أهل سيدي محمود، أولاد الناصر، أولاد يحيى بن عثمان، تجكانت، كنته، مشظوف) لكنه لم يتمكن من ذلك إلا بعد لأي لأن قاطرة الحرب كانت مندفعة، فقاد قومه في معارك من أهمها العيون، كما خاض معركتي أكمون والمدروم في أطراف الحوض الغربية، ص:8"
وهذه المعارك لم تشارك فيها هذه العشيرة وحدها، ولم تقد فيها إلا نفسها، والراجح أن المؤلف كان يقصد "بقومه" عشيرته على وجه الخصوص؛ لكن الصياغة كانت تفيد العموم؛ وهذا الأسلوب كثير في الكتاب، ومن ثم فهو يحتاج إلى مراجعة وتصحيح في الطبعات اللاحقة.
2 ـ روايات متناقضة:
أولا: مواقع المعركة(قصة القلب، ولحنوك):
ورد في هامش الصفحة 41، في تعريف "الگلب":
"الگلب المقصود هنا گلب حيب الله الذي شهد أكبر عدد من قتلى كنته خاصة أولاد بوسيف"
وورد في هامش الصفحة 40 مانصه:
"لحنوك وقعت فيها المعركة الأولى التي لحقت بأولاد بوسيف فيها خسائر كبيرة"
وورد في هامش الصفحة التي تليها:
"لحنوك احنوك التنگيزة التي وقعت فيها المعركة الأخيرة وانتصر فيها كنته، ص:41"
وبعيدا عن تناقض النصوص الذي قد يكون من باب السهو، فإن لحنوك لم تنتصر فيها كنته، وذلك ما يوضحه كاف سيدي محمود ول عمار المشهور الذي أورده الكتاب:
اكلامْ أنَّ كنتَ ذا العامْ اعلينَ بيهْ ادورْ اتُّوكْ
واحْنَ زادْ انكولُ لكلامْ ألِّي ماهُ زايزْ لحْنوكْ
فليس من المنطقي أن تفتخر إدوعيش بالنصر الذي حققته كنته!
والظاهر أن منشأ هذا الاختلاط، وسبب الدَّخَل أن صورة معركة گصر البركة بجولاتها المتعددة لا تعكسها مرآة الكتاب بشكل واضح ولا صاف، من أجل ذلك سأحاول سرد سير المعركة بتفصيل، مركزا على جيش كنته وبلائه الذي صوره الكتاب بصورة تختلف عن المعلومات التي جمعناها من مصادر مختلفة.
في يوم قصر البركة تقرر أن تتقابل اشراتيت مع كنته، وأبكاك امع أحي بن عثمان؛ في جانب كنته انقسم المعسكر إلى ثلاثة معسكرات، معسكر يتكون من أولاد سيدي حيبل يسمى "خالفه"، ومعسكر يتألف من أولاد سيدي ببكر يسمى "خالفة"، ومعسكر يتألف من أولاد بوسيف يسمى "مَحْرَدًا"، وكانت الخطة تقتضي أن يتلاقى أولاد سيدي حيبل وأولاد سيدي ببكر وأفراد العشائر الأخرى مع اشراتيت، ويكون أولاد بوسيف صمام الأمان إذا التقت الفئتان، فإن كان النصر لكنته كروا على اشراتيت، وأكملوا هزيمتها(تطباب الكصرَ)، وإن دارت الدائرة على كنته كروا على اشراتيت ليمنعوا الهزيمة، ويحولوها إلى انتصار، ولعل اسم المحرد اشتق من منع الهزيمة، لأن "الحَرْدَ" في اللغة الفصيحة هو المَنْع.
وتتفق الرواية لدى كنته وإدوعيش أن أولاد بسيف كانوا في "المحرد"، لكن هناك من يفسر المحرد بأنه القلب في الخطط الحربية، وأن غيره أجنحة.
وربما كانت الخطة ـ كذلك ـ تقتضي أن يكون أولاد بوسيف في مكان غير مكشوف ليتمكنوا من مباغتة الخصوم حين تندلع المعركة، وهكذا سار اشراتيت إلى ميدان المعركة، لكنهم سلكوا الطريق الذي لم يكن متوقعا، فاصطدموا بأولاد بوسيف، وفي رواية أحد مؤرخي إدوعيش أن أولاد بوسيف باغتوا اشراتيت، وفي رواية كنته أن اشراتيت باغتت أولاد بوسيف، والخلاصة أن الجمعين التقيا على غير ميعاد، فوقعت الواقعة.
وهكذا ألقى اشراتيت بكل ثقلهم على أولاد بوسيف فرجحت الكفة في البداية لصالحهم وشرع أولاد بوسيف في التراجع حتى اقتربوا من "لمدنه" وهنالك استماتوا في القتال وفقدوا الكثير من رجالهم الصامدين في الميدان.
في الجانب الآخر أحس أولاد سيدي حيبل باندلاع المعركة، ولكنهم في البداية حسبوا أنها تدور بين أولاد بسيف وبعض عشائر اشراتيت، وجعلوا يستعدون لمن يترقبون وصوله إليهم من هذه العشائر، وفي هذه الأثناء انطلق "ول أعمر الشلح" إلى مرتفع ليعرف طبيعة المعركة، ومواقع قوات اشراتيت؛ فعاد ليخبر المعسكر أن اشراتيت بقضها وقضيها تكاثرت على أولاد بوسيف، وأنهم يتعرضون لخطر شديد، فانطلقوا إلى ميدان المعركة مسرعين، وهكذا بدأ الميزان يميل لصالح كنته رغم صمود اشراتيت.
أما معسكر أولاد سيدي ببكر فلم يكن على مرتفع من الأرض، ولم يشعره باشتعال المعركة إلا دويّ البنادق فأرسلوا شخصا يسمى "مَامُورُ ول مَاقَه" ليطلع لهم على ميدان المعركة ويأتيهم بالأنباء، وهكذا عاد الرسول بالنبأ اليقين، وأخبرهم أن أولاد بسيف اصطدموا بجميع قوات اشراتيت، هنالك اختلفت الآراء، فاقترح محمد البشير ول أحمد جد ول البشير(أولاد سيدي ببكر البيظ) أن يلتحقوا بأولاد بوسيف، ويشدوا أزرهم في المواجهة، واقترح محمد المختار بن الحامد(أولاد سيدي ببكر الكحل:أولاد سيد الوافي) أن يأتوا من الاتجاه الآخر"إِرَوْﮜبُو"، ليتكبدوا أخف الأضرار، ويتمكنوا من مباغتة اشراتيت، ولم يتفق الفريقان، بل تبادلا أطراف حديث غير ودي؛ فتوجهه محمد البشير ومن اتبعه من أولاد سيدي ببكر إلى ميدان المعركة، وذهب محمد المختار بن الحامد ببقية المعسكر إلى الاتجاه الآخر.
وحين دارت الدائرة على اشراتيت وشرعوا في الانهزام تصدت لهم المجموعة لتي يقودها محمد المختار بن الحامد، فلم يتمكنوا من الانهزام في اتجاه واحد، وكانت هزيمتهم هزيمة كلية لا جزئية كما ذكر المؤلف في الصفحة 39.
وقد دارت هذه المعركة في مكان يسمى "گلب حيبل"، وبه وقعت معركة واحدة لا معركتين منفصلتين كما يصور الكتاب، وقد قُتل من كنته في هذه المعركة سبعون قتيلا فيها 41 من أولاد بوسيف، وثلاثون من بقية العشائر كما أورد الكتاب، وجل الثلاثين من أولاد سيدي حيبل، ثم بضعة رجال من أولاد سيدي ببكر البيظ، وأفراد من العشائر الأخرى.
وبهذه المعركة معركة "الگلب" يفتخر شاعر كنته حمادي ول آلويمين حين يقول في الرد على كاف سيدي محمود ول عمار:
لكْلامْ ألِّ خَبْرُ مَشـْــــــــــدُودْ يَحَمَّ كولْ الكوْمَكْ ذُوكْ
يسْبك فِي الكلبْ أبَّاشْ إِعُودْ يتّاصلْ مِنْ فَمْ ألحْنُوكْ
وفي الجانب الآخر من المعركة تلاقى جيش أحي بن عثمان بجيش أبكاك، ودارت الدائرة على أحي بن عثمان، وتمت مطاردتهم حتى "احسي لعرارمه". ولم يتوقف الجيش الآدراري إلا عند "عين تلسكه" كما حدثني أحد مؤرخي إدوعيش، وكما سمعت كذلك عند أحد مؤرخي كنته.
وينبغي أن يُعاد النظر في كل ما يتعلق بتحكيم أمير آدرار في الغنائم، حيث يشير الكتاب إلى أن جيش آدرار عاد في الغد حين علم بانتصار كنته على أبكاك، ص:35، والرواية المتواترة ـ وهي الأصح ـ أن جيش آدرار لم يعد بعد هزيمته، وكان بضعة رجال من كنته في هذا الجيش، وقد انهزموا معه حتى "عين تلسكه"، ولم يعودوا لأهليهم إلا بعد أسبوع أو كثر، فكيف يعود "جيش آدرار"، إلى تگانت في الغد، ولا يعود من انهزموا معه من أهل تگانت إلا بعد أسبوع!؟.
وقد اختصر بن حامد أحداث معركة النهار فقال: "ومع أهل آدرار كنته، فهزم إدوعيش(يعني أبكاك) من يقابلهم من أولاد يحي بن عثمان، وهزم كنته من يقابلهم من إدوعيش(يعني اشراتيت) ص:595"
ولذلك يسمى هذا اليوم محليا "يوم اتعاگيب الكَصْراتْ"، لأن كنته انتصرت، وانهزم حلفاؤها أحي بن عثمان، ولأن أبكاك انتصرت، وانهزم حلفاؤها وأبناء عمومتها اشراتيت.
ويقول بيير بونت عن قصر البركة: ""كانت المعركة ضارية ولم تحسم إلا بعد أن انتصرت كنته على اشراتيت مما أرغم إدوعيش على الانسحاب"ص: 475.
وما قاله متهافت؛ لأن انتصار كنته على اشراتيت لم يرغم "أبكاك" على الانسحاب، حيث كانوا في الوقت نفسه قد انتصروا على احي بن عثمان، وذهبوا في مطاردتهم.
أما لحنوك التي تسمى احنوك "أنكشان" فهي مضيق بين جبلين جمع فيه فارس إدوعيش سيد أحمد لبات ول محمد ول اسويد أحمد مجموعة من فرسان أبكاك العائدين من انتصارهم على أحي بن عثمان، وجعل يعترض المارين به من كنته العائدين من مطاردة اشراتيت، فقتل بعض فرسانهم واستولى على بعض الأسلاب، وقد ماتت لزعيم أولاد سيد الوافي محمد المختار بن الحامد ثلاثة أفراس، وهو يحاول اجتياز هذا المضيق الصعب، وبعد مناوشات عاد كنت إلى مضاربهم متعللين بانتصارهم على اشراتيت رغم خسائرهم الجمة، وعاد أبكاك ـ كذلك ـ إلى مضاربهم فرحين بانتصارهم على أحي بن عثمان، وبدأ الطرفان "كنته وأبكاك" يقرعون الطبول احتفالا بانتصارهما بعد معركتي النهار.
وبعد صلاة المغرب اقترح "ول عبداوة" حسب رواية بعض أولاد بوسيف مباغتة أبكاك، وإلحاق الهزيمة بالطرف الثاني من إدوعيش، وفي الرواية المتواترة أن محمد المختار بن الحامد كان صاحب الاقتراح؛ ومما لاشك أن محمد المختار بن الحامد كان قائد معركة الليل ضد أبكاك، لأن رؤساء العشائر الكنتية كانوا بعد معركة النهار بين قتيل وجريح.
وهكذا تشكلت الكتيبة الرئيسة من مائة فارس، فيها سبعة فرسان تحاملوا على جروحهم ليشهدوا الواقعه، وباغت كنته "أبكاك" وهزمتها هزيمة شاملة بالغ الكتاب في ذكر تفاصيلها.
2 ـ حكايات تحتاج إلى مراجعة:
أ ـ حكاية صنبارة:
ورد في الكتاب ما نصه: "وكان محمد المختار في ذلك اليوم أيضا مراقبا لكل ما يجري، وقد نقل عنه أنه عاش مشهدين: "أصابته الحيرة من أولهما، وهو مطاردة صنبارة بن ختار لأربعين رجلا، أصيبوا بالذعر حتى نسوا أنفسهم...ص:35"
وبدهي أن هذا النص أقرب إلى مجال الأسطورة منه إلى ميدان الواقع، لأنه لا يمكن لأي فارس مهما بلغت شجاعته أن يطارد أربعين فارسا يملكون سلاحا كسلاحه، لاسييما إذا كان المطارَدون من قبيلة إدوعيش المعروفة بالشدة والبأس. وكان الأفضل أن يجعل هذا النص وأمثاله في الهامش، وإن جُعل في المتن فكان ينبغي أن يشار في الهامش إلى أنه من باب الأساطير التي تروى في الحروب.
ب ـ حكاية مقتل إبراهيم:
لقد بنيت القصة على أساس صحيح، وهو قتل حمادي ول باب ول حمادي لإبراهيم ول بكار الملقب "إبراهيم ول إبراهيم" في مبارزة مشهورة؛ وعد الكتاب القصة من الأسباب الممهدة لمعركة قصر البركة، وهو أمر له ما يعززه من الشواهد الشعرية التي قيلت في تلك الفترة؛ ومنها جواب حمادي ول آلويمين لعثمان ول آگجيل:
بَكارْ ألِّي جابُ للشَّرْ كانْ إِدُورْ الدَّيْنْ افبابَ....
يشير بالدين إلى مقتل إبراهيم، و"بابَ" هو والد حمادي، لكن القصة بعد ذلك تحتاج إلى مراجعة، فقد اعتمد الكتاب على رواية شائعة محليا مفادها أن حمادي كان صديقا لإبراهيم، وأنه كان متفوقا عليه في كل شيء قبل أن يقتله في الترامي(اتقاميس)، حيث أورد الكتاب في سياق الحديث عن إبراهيم ما نصه: "ذلك أن استهدافه للأسرة التي عاش في خيمتها كان أمرا غريبا، وخاصة مع الفتى الذي كان قرينه في صباه، حيث قرءا القرآن معا، يأكلان ويشربان في إناء واحد، ينامان معا وكذلك يلعبان، ويواجهان صبية الحي، ويرعيان الإبل ويتسابقان على الخيل ص:20/21"
ثم ورد على لسان حمادي في سياق محاورته لإبراهيم قبل مبارزتهما ما نصه: ""ألا تتذكر أنني كنت أصرعك إن تصارعنا، وأسبقك في گول گفان الأشوار عند أزوان، ص:22"
والصحيح أن إبراهيم وحمادي لم يتصارعا من قبل، ولم يتساجلا في الشعر، لأنهما ليسا صديقين، فصديق إبراهيم الحميم هو سيد امحمد ول باب ول حمادي لا أخوه الذي كان أصغر منهما. ومن ثم فينبغي أن يعاد النظر في العنوان ""مواجهة صديقين لدودين ص:21"، وفي بعض التفاصيل التي بنيت على هذا الأساس.
كما ينبغي أن يعاد النظر في أشياء أخرى ـ أشد خطورة ـ وردت في أثناء هذه الحكاية؛ ومن ذلك ما ذكر عن رفيق حمادي الذي أمره برد الإبل، فقد ورد في الكتاب أنه كان راعيا ص:21، ولا علاقة للمذكور ولا لأهله برعاية الإبل، والصحيح أن إبراهيم جاء للإبل واستاقها؛ فأقبل راعيها إلى حمادي وأخبره بالأمر، وكان رفيقه المذكور بصحبته، فانطلقا معا إلى إبراهيم وحدث ما حدث.
ت ـ حكاية عبء المعارك:
أولا: معركة فرع الكتان:
أورد الكتاب في سياق حديثه عن معركة "فرع الكتان، وهزيمة جيش أحي بن عثمان، ومن معه من كنته":
"غير أن الأمر لم يطل إلا ساعات، حتى جاءت النجدة بقيادة سيد أحمد لبات، وبمشاركة مقاتلي إديشلي المنشقين، والذين تحملوا العبء الأكبر في مواجهة ذلك اليوم، ولم يصمد الجيش المهاجم طويلا..."ص:43
ومن المعلوم أن قوة "إديشلي" في آدرار، وأن المجموعة التي توجد منهم في تكانت قليلة، ولا يمكن أن تتحمل عبء المعركة عن إدوعيش بطرفيها العظيمين(أبكاك، واشراتيت)، لكن الكتاب استند في هذه الرواية على نص لبيير بونت ضعيف السند والمتن يقول فيه:
"جرت المعركة في واد فرع الكتان، وقد وجدت قوات آدرار نفسها محاطة بعد حركة دائرية نفذها محاربوا إديشل، فاضطروا إلى الانسحاب بسرعة مخلفين مائة قتيل في ميدان المعركة" ص:476.
ولدينا رواية بسند متصل صحيح عن الشيخ أحمد ول آدبه، وقد كان من الشباب الكنتيين الذين شاركوا في المعركة إلى جانب "أحي بن عثمان"، وما يتعلق من الرواية بالموضوع: أن جيش إدوعيش تظاهر بالهزيمة يوم فرع الكتان، ونصب كيمنا مؤلفا من (اندايات)، وهذا الكمين بمساعدة بقية الجيش هو الذي ألحق الهزيمة بأولاد يحي بن عثمان، ومن سار معهم من الشباب الكنتي يوم "فرع الكتان".
ثانيا: معركة قصر البركة:
ورد في هامش الصفحة الرابعة والثلاثين ما نصه:
"وقع ثقل المعركة على كواهل أولاد سيدي حيبل وأولاد سيدي ببكر مع مشاركة السبعين من أولاد بوسيف، وأفراد من عشائر كنته البعيدين عن تگانت"
والصحيح أن أولاد بوسيف شاركوا كلهم في المعركة، ولا يمكن لسبعين شخصا أن تقاتل. جميع عشائر اشراتيت، ولو ساعة واحدة كما تصور الكتاب، ثم إن أولاد بسيف قُتلت منهم 41 في معركة النهار، وشاركت منهم 40 في معركة الليل ضد أبكاك، وهذا يتجاوز العدد المذكور، ولاشك أن ثقل المعركة ـ إن كان لا بد من تبيانه ـ وقع على كاهل أولاد بسيف، ثم على كاهل وأولاد سيدي حيبل. والأدلة كثيرة، وعدد القتلى يكفي.
أما ما ذكره الكتاب من "هزيمة أولاد بسيف عند الزوال، وأن غيرهم استمر في القتال حتى العصر، ص:34"، فهو "مثل عبء المعركة" يحتاج إلى مراجعة وتصحيح؛ لأنه ـ من جهة ـ مخالف لروايات مختلفة بعضها متصل السند بمن شاركوا في المعركة، ولأنهم لو انهزموا فعلا لدخلت "لمدنه" من أقطارها، فقد قاتلوا دونها وحدهم قبل بقية الجيش، كما أنه ليس من المنطقي أن يقتل من أولاد بسيف 41 رجلا في ساعة واحدة، ولا يقتل من جميع عشائر كنته التي قاتلت يوما كاملا إلا 30 رجلا. هذا إذا سلمنا أن المعركة استمرت أكثر من ساعتين أوثلاثة؛ زد على ذلك أن شاعر أولاد بوسيف سيديَّ ولد آدبه كان من الفرسان المشاركين في المعركة، ولو كان انهزم لعيره بذلك سيدي محمود ول عُمار أو غيره من شعراء إدوعيش الذين كانوا يساجلونه، ولدينا شعر لهؤلاء يعيرون بعض الشعراء من زعماء العشائر بالتراجع عن المعركة، وكان سيدي أشد وطأة عليهم كما يعلم الجميع، فلماذا لا يعيرونه بانهزامه وانهزام قومه!؟
ولا شك أن الشعر الذي يقال في أتّون المعارك من أهم الوثائق التاريخية، فنفسية الشاعر، وسياق التلقي، يدفعانه إلى الصدق، ويجعلان شهادته أكثر دقة من الروايات النثرية التي تتكون في ظل الزمن الممتد بعيدا عن شمس الواقع الساطعة، وسأقتصر على نص واحد لا علاقة له بالسجال الذي كان يدور بين شعراء كنته وإدوعيش، وإنما هو نص في الفخر لسيد أحمد ول آلويمين، يفخر بقومه أولاد بوسيف، ويشير إلى بلائهم في المعارك، خاصة قصر البركة التي أنتج النص في ظلالها:
ما گطْ جبْنَ ذَمــــــامَ
فِي الشَّرْ ونَّ لـــعْمامَ
وَامْنَــــــيْنْ نرْدُولُ لَامَ
لِلْبَــــــاسْ ننْعَكْدُ دَرْگَ
أُلا گــــطْ درْنَ لاِسْلامَ
عَنْ يُومْ لعْنَادْ افْمَلْـــگَ
ذَفَاشْ مَاتُ مَـــــــــوْتَانَ
والحَــــــيْ مِنَّ فِيهْ ابْگَ
وِدُورْ يَلْگ مُــــــــــلَانَ
مَجَــــابْ نَقْصْ أُلَا رگَ
أُلا گــــطْ كنْتَاوِ حَاصرْ
يَكُونْ بِينَ لمْحـــــاصِرْ
وِعُودْ عَنَّ يتْگــاصـــرْ
فمْنَينْ تَتْگرَّنْ بَـــــــگَ
وِعِيشْ وَوْلَادْ النَّاصِــرْ
اشْهُودْ عَنَّ في المَلْــگَ
إِعُودْ ذَ لْمنَّ حَــــاصِــرْ
لِلْبَاسْ قَشْوَ يُـــــــلَــــگ
وفي السياق الأدبي لا يمكنني إلا أن أتحسر على تقصير الكتاب في هذا الميدان؛ حيث خصص محورا للمساجلات الشعرية؛ لكنه لم يتناول فيه إلا نصوصا قليلة من إنتاج محمد المختار بن الحامد، ونصا أو اثنين لشعراء إدوعيش، وكان ينبغي لهذا المحور أن يكون جامعا لإنتاج محمد المختار بن الحامد كله؛ وكان ينبغي كذلك ألا تغيب النصوص الجميلة التي تبادلها الطرفان بعيد المعركة مثل: "اطلع لبهار" المشهورة لسيدي ول آدبه، ومثل نصوص حمادي ول آلويمين، وسيد أحمد ول فال وغيرهما من شعراء كنته ، وكذلك نصوص سيدي محمود ول عُمار، وعثمان ول آگجيل، وغيرهما من شعراء إدوعيش.
وحبذا لو أعيد النظر في النص الذي أجاب بيه حمادي ول آلويمين النيه ول بكار"تصريف السبحان فات، ص:41"، ومن الأفضل حذفه؛ لأنه سقيم من الناحية العروضية، وقد تكون الطباعة وراء ذلك، ولأنه جواب لنص لم يرد في الكتاب هو: "اتمر لجواد أنت كلت..." ، والنصان ليس فيهما واحد للنيه ول بكار، ولا أظن أن فيهما ما هو لحمادي ول آلويمين، وهما معا، لا يستحقان من الناحية الأدبية، مزاحمة النصوص الجميلة التي غابت، ولها حق الصدارة.
كما أنني أتحسر لوجود نص متواضع من الناحية الفنية على غلاف الكتاب، وأرجو أن أشاهد على الغلاف في الطبعات اللاحقة أحد النصوص الجميلة لمحمد المختار بن الحامد كقوله:
واللهِ عَظَّمْتْ السُّبْحـــانْ
مَانِ بَاغِي فِي الدّنْيَ يُومْ
مَاهُ يُــــــومِ عَنْدْ أَزَوانْ
وَلَّ يُـــومْ البَارُودُ إِكُومْ
أو قوله:
الشَّرْ جَيْتُ متْــــــوَلِّ
وانْعَتْ بَيْدِ تلْيــــاعِي
وَابْگَيْتْ مَــــانِ مُخَلِّ
يَكُونْ فَخْلَاگْ اذْرَاعِ
4 ـ أخطاء جزئية:
أ ـ أسماء القتلي:
لقد ذكر الكتاب بعضا من قتلى كنته في معركة "قصر البركة" ص:36/37، وقد عثرنا على أسماء أخرى في أثناء بحثنا لهذا الموضوع، ويمكن أن نمد بها المؤلف ليضيفها في الطبعات اللاحقة، لكن الأسماء الواردة في الكتاب وقعت فيها بعض الأخطاء، كما حدث في اسم زعيم أولاد بسيف البيظ، حيث سماه الكتاب: سيد امحمد بن حمادي، واسمه: حمادي ول امحمد ول أحمد ول محم ول باب، وكذلك أخطأ في اسمه سيد أحمد الأمير في حوادث السنين فسماه سيدي ول بابَ ص:595، كما أخطا الكتاب في الاسم العائلي للعبيدي ول سيد أوبكْ، فجعله ول سيد أوبّ. ونقل كذلك من حوادث السنين اسم: سيد أحمد ول الشيخ سيد المختار، والظاهر أن المقصود به: سيد امحمد ول باب ول حمادي، وقد تحدثنا عنه في تعليقنا على مقتل إبراهيم، وهو فارس وشاعر حساني مذكور.
ب: التحضير للمعركة:
أورد الكتاب في سياق حديثه عن اتحاد كنته في معركة قصر البركة:
" ... وأعطوا الدليل على أنهم قادرون على التوحد بالرغم من تباعد المنازل، فلم يتخلف أحد ممن هم على ظهر الهضبة، بينما أرسل أولاد بسيف قوة مهمة...ص:39"
والرواية التي لدينا عن الثقة أن الهضبة لم يكن بها أحد من كنته قبيل معركة قصر البركة، فقد اعتزل كنته بداية المعارك بين أهل آدرار وإدوعيش، وتركوها مسرحا لمواجهات الطرفين، وفي سياق التحضير للمعركة كان "محصر كنته" بفروعه الثلاثة(أولاد سيدي حيبل، ، أولاد سيدي ببكر، أولاد بسيف) ، مقيما تحت هضبة تگانت لا فوقها. وقد مكث جيش آدرار شهرا كاملا في ضيافته، وكان قراهم كل يوم تتولاه إحدى العشائر الثلاث، وكان محمد المختار بن الحامد(أولاد سيد الوافي)، وسيد امحمد الكنتي ول حمادي(أولاد بسيف)، وسيدي بن سيد الأمين بن سيد امحمد(أولاد البح)، يحاولون إقناع زعيم أولاد سيدي حيبل: امحمد ول سيد أحمد ول أحمد، بقتال إدوعيش، واستعصم فترة طويلة؛ وحين وافق على الحرب، لم تلبث كنته بفروعها الثلاثة أن رحلت إلى هضبة تكانت، ابتغاء المواجهة، وقد وصف سيدي محمد ول الگصري هذا الرحيل في نصه المشهور:
يَفَرْصِي حَزْمِكْ مِنْ فَواتْ
خَبْرْ الفتْنَ عَنَّكْ خَلِّيهْ...
حيث خصص "الطلعة الثانية" لوصف هذا الرحيل، ولو كان المؤلف على علم بهذه المعلومات، لاستعان بها في حديثه عن التمهيد للمعركة، ولأفادته في التصور الصحيح لعدد الجيش.
ولا يمكنني في الختام إلا أن أشيد بتأليف هذا الكتاب الذي كان محاولة لعرض سيرة فارس شجاع، وقائد فذ، ومجاهد عظيم، ظلت سيرته قرنا كاملا تستصرخ من يستنطقها، وأرادت جهات إطفاء نور جهاده، وطمس آثاره، فجاء هذا الكتاب الذي يعد إضافة حقيقية للمكتبة الشنقيطية، رغم ما اعتراه من هنات تصاحب العمل البشري عادة، ولا نشك في أن المؤلف بحكمته وتجربته في البحث والتأليف قادر في الطبعات اللاحقة على تلافي ما في الكتاب من تقصير.
الدكتور: محمد بن أحمد المختار