السودان بعد البشير: ما الذي تغير فيه بعد الثورة؟

أحد, 12/29/2019 - 10:52

كانت الإطاحة بالرئيس عمر البشير الذي حكم السودان لنحو ثلاثة عقود من أبرز الأحداث في القارة الأفريقية في عام 2019. وفي هذا المقال يكتب مراسل بي بي السابق في السودان جيمس كوبنال عن تجربته في العودة إلى الخرطوم وعن حجم التغيرات التي شاهدها فيها.

"ثورة" تعالت الهتافات وتبادلت مجموعة الفتيات إشارات الحرية مشجعات بعضهن البعض. وهدرت الأصوات مجتمعة بكلمات: حرية! سلام! عدالة! وكل مطالب المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، التي باتت الآن مألوفة، وسط حماس يتصاعد بشكل مُعدٍ.

بيد أن هذا التجمع، الذي كان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لم يثر شحنة من الترقب والقلق لدى الجنود المدججين بالسلاح في مواجهة محتجين مطالبين بحقوقهم. ولم يكن تجمعا سياسيا، أو تجمعا للجان الأحياء الشعبية التي فعلت الكثير لإبقاء ثورة السودان حية، بل هو تجمع صباحي لطالبات مدرسة في منطقة ليست بعيدة عن مركز العاصمة السودانية الخرطوم.

فهذه الثورة باتت ضمن المنهاج الآن في هذه المدرسة على الأقل، التي تجمعت كلها في باحة تغطيها من الأعلى سقيفة من قماش الكتان.

كانت الفتيات بأعمار لا تتجاوز الـ 13 عاما، يُغنين أناشيد الثورة الأخيرة، مثل أغنية مغني الراب السوداني أيمن ماو "دم".

وتتضمن الأغنية سطورا نقدية حادة تقارن بين العسكر الذين يحكمون السودان بالجنجويد / الميليشيا التي دعمتها الدولة وروعت وقتلت الناس في دارفور خلال حكم البشير.

"رصاصة حية ويكَولوا ليك مطاطة، ديل جنجويد ويكَولوا ليك رباطة ... دفعولك كم عشان تكَلبها دم" وتصدح الموسيقى بأعلى صوت عبر سماعات المدرسة المشوشة، لكن هذا التشويش لا يهم، إذ تغطيها أصوات المئات من الحناجر الشابة.

وعلى أنغام الموسيقى قدمت الطالبات مسرحية يُؤدين فيها دور متظاهرات يحملن الزهور وتصوب نحوهن البنادق زميلات لهن ارتدين أزياء عسكرية.

وفي أعقاب ذلك تحدثت الفتيات عن شعور جديد بالفخر بكونهن سودانيات، وكيف أظهرن لأنفسهن وللعالم ما يمكن أن تكون عليه بلادهن.

قال سليم، أحد المعلمين في المدرسة : الثورة لن تتوقف حتى مغادرة العسكر للمشهد كليا.

كيف وقعت الثورة؟

مصدر الصورةAFP

  • ديسمبر/كانون الأول 2018: خرجت مظاهرات احتجاجا على ارتفاع أسعار الخبز التي زادت بعد أن ألغت الحكومة الدعم الذي كانت تقدمه في هذا الصدد.
  • فبراير/شباط 2019: أعلن البشير حالة الطوارئ وأقال الحكومة وولاة الولايات في محاولة لإنهاء أسابيع من الاحتجاجات ضد نظام حكمه، قتل فيها نحو 40 شخصا.
  • أبريل/نيسان 2019: أطاح الجيش بالبشير وشرع في محادثات مع المعارضة بشأن الانتقال إلى الديمقراطية.
  • يونيو/حزيران 2019: فتحت القوات الأمنية النار على المحتجين وقتلت 87 شخصا، على الأقل.
  • سبتمبر/أيلول 2019: تشكلت حكومة جديدة برئاسة عبد الله حمدوك، كجزء من اتفاق لتقاسم السلطة لثلاث سنوات بين الجيش وممثلين مدنيين وجماعات المعارضة.

وقد أطاح عدد من جنرالات الجيش بالبشير بعد أن شلت الاحتجاجات السلمية السودان في وقت سابق هذا العام. ولكنهم حينذاك حاولوا التشبث بالسلطة، فقمعوا بعنف جموع المحتجين خارج مقر قيادة الجيش في الخرطوم، وقد قتل 87 شخصا على الأقل، وكانت هناك وفيات أخرى خارج العاصمة.

وقد قطع الجنرالات الاتصال بشبكة الانترنت، في محاولة لعزل القوى المنظمة من الثائرين الشباب على وجه الخصوص. بيد أن المظاهرات لم تتوقف وأجبرت الجنرالات في النهاية على الموافقة على تكوين حكومة مدنية.

ولكن حتى الآن، ما زال للجيش خمسة ممثلين من بين 11 عضوا يشكلون ما يسمى بمجلس السيادة الذي يتولى رئاسة البلاد.

ويخشى العديد من السودانيين من أن أحد مطالب المحتجين الرئيسية، وهو تحقيق العدالة لأولئك الذين قتلوا في الثورة وخلال نحو ثلاثة عقود من حكم البشير، سيكون مستحيل التنفيذ مع وجود الجنرالات في مقدمة المشهد السياسي.

ولكن بعد مرور شهرين فقط على أداء الوزارة السودانية الجديدة القسم، أجد أن الأشياء تغيرت. لقد رأيت ذلك في أحد الأيام في شارع الجامعة، أحد الشوارع الرئيسية وسط العاصمة الخرطوم.

ثمة مجموعة صغيرة من الناس كانت تتظاهر أمام مقر رئيس الوزراء ضد إغلاق المدارس.

إهانة أتباع البشير

وكان المحتجون يهتفون ويصفقون ويزغردون، وقرأوا عريضة احتجاج سلموها لمسؤول حكومي للنظر فيها.

مصدر الصورةREUTERS

Image captionالبشير ظهر لأول مرة منذ الإطاحة به في 16 يونيو/حزيران الماضي، أمام مكتب النائب العام

قال أحد المحتجين، في زمن البشير "لم يكن ذلك ممكنا، لكننا الآن نستغل أي فرصة لإسماع أصواتنا".

وعلى بعد نحو 100 متر في الشارع نفسه، ثمة تجمع آخر كان لدعم بعض كبار الشخصيات في النظام السابق المحبوسين.

إن مثل هذه المظاهرات كانت تُفض بالقوة في زمن البشير، باستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع والهراوات، وربما بطريقة أسوأ.

ولم يمر وقت طويل حتى قام أحد المارة بتوجيه إهانات لأنصار البشير. وهذه، أيضا، حرية جديدة.

يمكنك أن تشعر بانفتاح جديد في أي محادثة تخوضها هنا في الغالب. فالسودانيون يناقشون دائما السياسة بمستوى من الاهتمام والتعقيد نادرا ما تراه في أي مكان آخر.

لكن الآن، باتت الانتقادات تمارس بحرية وبصوت عالٍ، حتى ضد المؤسسة العسكرية، ويبدو أن الخوف القديم من شرطة الآداب (النظام العام) قد تبدد.

في الماضي، قد تتعرض المرأة للجلد لمجرد خروجها إلى مكان عام مرتدية بنطالا، ويعاقب الرجال بالجلد لشرب الكحول، الذي مازال حتى اليوم ممنوعا رسميا.

بيد أنني رأيت الناس من كلا الجنسين يجتمعون لشرب الشاي، وربما ما هو أثقل قليلا، على ضفاف النيل الأزرق، بينما تمر سيارة الشرطة قربهم من دون أن تتدخل في حياتهم.

وما زال هناك الكثير من المحتجين الذين يرفضون فكرة الحكومة الانتقالية بالذات، التي يرون أنها ليست الطريق التي ستوصل البلاد إلى الانتخابات، بل صفقة تسوية ملطخة بالدماء وغير مقبولة تماما.

فالمرحلة الانتقالية قد تكون ببساطة تأسست على تصلب الجيش، أو بسبب الاقتصاد المتعثر. فأسعار الغذاء في ارتفاع وكذلك الحال مع تكاليف النقل.

ولكن عودا إلى المدرسة، حالما أنهت الفتيات تجمعهن الصباحي، وظللن يرددن تلك الشعارات البطولية، أدركت أن ثورة السودان الأخيرة باتت جزءا أساسيا من الحياة اليومية الآن، وبات من الصعب إهمال مطالبها.

الفيس بوك